يختصر القرآن ذلك فيقول: (قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام: 91]
كلمة "الله" وحدها، كفيلة بإسكات أكبر أكاذيب الحياة.
كلهم سجدوا، حتى أولئك الذين طردوه وآذوه وخططوا لاغتياله، سجدوا !
تلك الأشياء التي في خلاياهم وشرايينهم تفجّرت فيها طاقة إيمانيّة رهيبة فجعلتهم يخرّون للأذقان سجداً.
يجب أن توقن أنه لو لم يصرف تلك السيارة المتهورة عنك لكنت الآن في عداد الموتى، فاصمد إليه أن يحفظك.
يجب أن تتأكد أنه لو لم يحطك برعايته عندما ركبت البحر، لكنت الآن طُعماً لأسماك المحيط، فاصمد إليه أن يكون معك.
ولهذا تصمد إليه لترتاح، ليهدأ لُهاثك، لأنك بدونه تركض وتلهث وتتوتر.
نسوا آمالهم وأحلامهم وهمومهم وغمومهم، وصار الموت هو كل ما يمكن لعقولهم أن تتصوره!
من هو الذي أصلح العطل بقدرته كي تنزل الطائرة بسلام ويخرج منها أولئك الذين حوّلهم الخوف إلى أشباح؟
بل في كل لحظة يحفظك مئات المرات.
كيف؟
في هذه اللحظة التي تقرأ فيها (ما بين القوسين) حفظ قلبك من التوقف، وشرايينك من الانسداد،
وعقلك من الجنون، وكليتك من الفشل، وأعصابك من التلف، ورأسك من الصداع، ومعدتك من القرحة،
وأمعاءك من التهاب القولون، وأعضاءك من الشلل، وعينيك من العمى، وسمعك من الصمم، ولسانك من الخرس.
كل هذا وأكثر حفظه في هذه اللحظة، ثم يستمر هذا الحفظ في اللحظة التي تليها، وهكذا.
فكم "الحمد لله" ينبغي أن نقولها في اللحظة الواحدة؟
جعلك لا ترى السوء، أو جعل السوء لا يعرف لك طريقا،
أو جعلكما تلتقيان وتنصرفان عن بعضكما وما مَسّك منه شيء.
تأمل ذاتك يوم أن تدخل المطبخ لتشرب الماء فإذا بك تسمع أزير الكهرباء من فيش الثلاجة مثلا، فتفصله وأدخنة الحريق كانت في بدايتها وتساءل: ما الذي أدخلك في هذه اللحظة بالذات؟ لماذا لم تتأخر خمس دقائق فقط؟
وحتى لو لم تحدث لك مثل هذه التفاصيل، فمن المؤكد أن ما هو قريب منها قد حدث لك، فقط أطلق لذاكرتك العنان، وسوف تتذكر ظلال اللطف وهي تغمر حياتك.
لا يريد منك سوى العودة إليه، أن تتلمس الطريق المؤدي إليه.
عد إليه بالرضا، عد إليه بالسجود، عد إليه بالتوبة، عد إليه بالاستغفار، عد إليه بالصدقة، عد إليه بالاعتراف.
اطرق بابه، ثم ارتقب الشفاء.
ليس هناك مستشفى في الدنيا تداويك إذا لم يشأن الله لها ذلك.
ليس هناك طبيب في العالم يستطيع أن يشخص مرضك، إلا إذا أراد الله ذلك.
المرض من أقسى اختبارات الرضا، فإذا كانت إجاباتك في هذا الاختبار راضية، كانت النتيجة مرضية بإذن الله.
قد يسأل البعض: كيف أرضى بالمرض وفيه الألم المكروه فطرة؟ كيف أرضى بالشيء الذي أكرهه؟
يجيب الإمام ابن القيم عن هذا التساؤل قائلا: "لا تنافي في ذلك، فإن يرضى به من جهة إفضائه إلى ما يجب، ويكرهه من جهة تألمه به، كالدواء الكريه الذي يعلم أن فيه شفاء، فإنه يجتمع فيه رضاه به، وكراهته له".
قل من بين آهاتك ما أمر به نبيك أمته أن تقول: "رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا"، قلها بقلبك، بل روض قلبك على الرضوخ لمعناها، بل اغسله بها غسلا، فالرضا عن الله فرع عن الرضا بالله.. وإذا رضيت به أرضاك!
اجعل قلبك يتنفس الرضا، اجعله يتلذذ بالرضا، ثم تأمل جسدك، وسترى أمارات الشفاء تدب في نواحيه بإذن الله..
هل تشعر أنك طائر قُص جناحاه فهو خائر القوى، بحاجة إلى مساعدة؟
هل لديك أشياء تخشى عليها، وتريد أن تجعلها في عهدة من لا تضيع لديه الأشياء؟ سواء كانت هذه الأشياء: أبناء أو مالا أو صحة أو حياة؟
إذن: فأدلف إلى أنوار اسم الله "الوكيل".
ابدأ بالتعرف من جديد على هذا الاسم الجليل، غُص في أغوار معانيه، أرح نفسك من ضعفها، وقلقها، واستيحاشها بأن تجعلها تتفيأ ظلال "الوكيل"..
وأعظم ما تتوكل على الله فيه هو عبادته، أن تتخلى وتتبرأ من حولك وقوتك وتقول بقلبك قبل لسانك: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، فتستعين وتتوكل وتطلب القوة منه على أن تعبده.
لا يُتصور أن يأمرك الله أن تعبده، ويأمرك أن تتوكل عليه، فتتوكل عليه في أمر العبادة فيخذلك، هذا مما لا يُتصور وقوعه، كيف تطلبه أن تعبده مع كمال حبّه لهذه العبادة ثم لا يعينك؟ فقط أكثر من الكلمات النبوية الكريمة:
"اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
ويقول أيضا:
"القلب يعرض له مرضان عظيمان إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف ولابد وهما الرياء والكبر فدواء الرياء بإياك نعبد ودواء الكبير بإياك نستعين.
وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: "إياك نعبد تدفع الرياء! وإياك نستعين تدفع الكبرياء".
يجب علينا أن نؤمن بهذا الكلام إيمانا عميقا، وهذا ربنا يقول في الحديث القدسي: "يا عبدي أنفق أُنفق عليك".
فإذا وضعت ريالا في كف فقير فثق أن الله سيضع لك من فضله ما يوازي بل ويفوق ذلك الريال صحة ورضا وعطاء وفضلا.
أن تحيا مسلما، وتعبد الله مسلما، وتعامل الناس مسلما، وتنظر وتتكلم وتشعر مسلما، ثم تموت مسلما!
سُئل الإمام أحمد: من مات على الإسلام والسنة، مات على خير؟ فقال لسائله: اسكت، بل مات على الخير كله!
يجبر القلوب والعظام والنفوس ويقدر أن تتداوى الجراح، وتكفكف الدموع سبحانه.
إذا أتعبتك الهموم، وغشيتك الكروب، فلا تطل البكاء.
سجادة توجهها إلى القبلة، تقضي على تلك الهموم والكروب في لحظات بإذن الله!
يكنس أبو بكر رضي الله عنه بيت العمياء ويطبخ لها طعامها!
يموت عبد الله بن المبارك فيفقد الفقراء تلك الأرزاق التي كانت توضع عند أبوابهم قبيل الفجر، فيعلمون بعد موته أنها منه!
يموت أحد خصوم ابن تيمية فيبشرونه بذلك، فيغضب ويذهب مباشرة إلى أهله وأبنائه فيعزيهم ويقول لهم: أنا كوالدكم، لا تحتاجون شيئًا إلا وأخبرتموني!
كانوا منشغلين بالمهمة العظيمة، مهمة جبر القلوب المنكسرة، كان الله يستخدمهم لذلك الشرف العظيم..
هل عُرضت عليك وظيفتان لا تدري أيهما أنسب لك؟
هل تزاحمت في عقلك مميزات فتاتين لا تدري أيهما تتزوج؟
بل هل تعبت من درب الضياع وتريد أن يمن الله عليك بأن يدلك إلى طريق النور والهداية؟
أنت إذن مهيأ لبداية عهد جديد مع اسم الله "الهادي".
أنت تحتاج أن تتعرف إلى هذا الاسم العظيم، أن تسترشد الهادي سبحانه ليوقف في نفسك جيوش الحيرة، ويهديك إلى الصراط المستقيم!
هل نسيت أنه يفرح بتوبتك؟
رأي الصحابة امرأة مزعورة في السبي تبحث عن ولدها، فلما رأته ضمته وقبلته حبًا وشوقًا وخوفًا، فتعجب الصحابة من هذا الحب وهذا الفرح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "الله أشد فرحًا بتوبة عبده من هذه بولدها".
انظر ماذا فعلت المغفرة بعكرمة أو بصفوان أو بغيرهما؟
لقد حولته من: قاتل للصحابة؟ إلى: صحابي جليل!
شاء وجودك فوجدت، وشاء صحتك فصرت صحيحًا معافى، وشاءك عاقلًا وها أنت تعقل ما تقرأ وتسمع، ولكن أتعلم ما هي أعظم مشيئة قد يمن الله بها عليك؟
أن يغفر لك!!
(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران: 129]
ما أعظمها من مشيئة هذه التي تجعلك مؤهلًا لدخول الجنة برحمة الرحيم سبحانه!