في الوقت الذي يريدك أن تعلم أنه على العرش استوى، يريدك أن تتيقن أنه أقرب إليك من حبل الوريد.
يسمع كلماتك، ويرى أفعالك، ولا تخفى عليه منك خافية.
دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد، فإذا بصحابته الكرام يدعون ربهم بأصواتٍ جهيرةٍ مرتفعة. فقال: "ارْبَعُوا علَى أَنْفُسِكُمْ، إنَّكُمْ ليسَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا".
بمجرد أن ينتهي العبد مِن الدعاء إذ بالإجابة تلوح، لأنه قريبٌ بدرجة لا يتصورها العقل!
تَضِيعُ دَابّة أحدهم فيمشي مبهوتًا، فيراه إبراهيم بن أدهم فيسأله، فيقول: "ضاعت دابّتي"، فيقف إبراهيم ويقول: "يا الله، لن أمشي خُطوة حتى تُعيد لهذا دابّته". فإذا بها تظهر مِن منحنى الطريق!
قريبٌ مِن جميع خلقه، يراهم ويحميهم.
كيف يكون قيوما على خلقه لو لم يكن قريبًا منهم؟
كيف يكون ربًا، إلا وهو قريب؟
مِن قُربِهِ أنه ينزل كما صحّ عن نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا فيقول: "هل من داعٍ فأُجيبه، هل من مستغفرٍ فأغفر له"،
يقول تعالى: (وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا) [الأنعام: 59]
تخيل عدد الأشجار، ثم عدد أوراقها، تخيلها وهي تتناثر في فصل الخريف، يَعْلَمَُهْاَ كلها.
يَعْلَمُ عددها، وأشكالها، وأنواعها ، وكل شيءٍ يخصها.
تأتي امرأة تجادل في زوجها، وعائشةٌ رضي الله عنها في طرف البيت، تقول إنها تسمع كلمة وتغيب عنها كلمة، وبعد ذلك الجدل ينزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم. يقول تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير) [المجادلة: 1]
يا له من قربٍ عجيب، وعِلْمٍ عظيم، وسَمْعٍ محيط، وبصرٍ نافذ.
قال لي صديقي مرة قبل أن يخرج من زيارتي في غرفتي بإسكان الجامعة: اُكتُب لي في هذه الورقة كلمةً لأقرأها وأنا عائد إلى غرفتي، فكتبتُ له: إنه يراك الآن. أخبَرني فيما بعد أنه فُجع بها!!
قُرْبُهُ ُيُخيفك، ويجب أن يخيفك.
وقُرْبُهُ يُؤنسك، ويجب أن يؤنسك.
استمع إليهِ وهو يهدئ من روع موسى عندما أعلن خوفه مِن الذهاب إلى فرعون، فقال سبحانه وتعالى له: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ) [طه: 46]
وهذا يكفي، فكونه معهما، هو أكبر حماية لهما.
ما قُرِّرَ في كتب العقيدة أن لله معيتين: معية خاصة بأهل ولايته، وهي معيةِ محبة ونَصرةٍ وتوفيق، ومعية عامة لجميع خلقه، وهي معية علم وسمع وبصر وإحاطة.
فكانت معيته لموسى وهارون معية خاصة تقتضي النَصرة والتوفيق، فكيف يخَافَان وقد وعدهما الله بنصرته وتوفيقه لهما؟
ومن أجلّ الآيات وأكثرَها أُنْسًا في هذا الباب قول الحق: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [الشعراء: 219].
فما هو مقدار الأنس الذي ستشعر به وأنت تقول: الله أكبر، مصليًا لله؟
إذا دفعتك المخاوف فابتسم، وتذكر قربه منك سبحانه، فكل الأشياء التي تخاف منها، ليست أقرب إليك منه!
مما يَذْكُره بعض الوُعّاظِ قديمًا: أن أحدهم كان مسافرًا في الصحراء فإذا بقاطع طريق حاملا سيفه يريد قتله، قال له: خذ مالي، فقال: لا، أريد أن أقتلك ثم آخذ مالك، فاستأذنه في ركعتين فأذن له: قال نسيت كل القرآن ولم أذكر إلا: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل: 62]. رددتها وما أنهيت الصلاة إلا وفارسٌ، لا أدري من أين، يضرب ذلك الرجل ضربةً بسيفه، يطير منها رأسه!
قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) [النمل: 62].
أيّ شخص يسألك عن الله، فأول شيء تصف ربك به هو أنه قريب منه!
النفوس مفطورة على عدم استعدادها لعبادة رب بعيد، لا يسمع دعاءها، ولا يرى حاجاتها، فمن أهم الصفات التي تبتدر بها، الذي يريد التعرف إلى الله، أن تخبره أن ربه "قريب". هكذا علّمك سبحانه أن تخبر عنه!
أسأل الله أن يجعلنا ممن يستحضر قربه، ويعمل وفق ما يمليه هذا الاسم الأعظم من معاني الذل والإخبات والمراقبة والخشية، وطلب الرحمة والنَصْرة منه وحده.
وبعد، فقد عرفت شيئًا عن بعض أسمائه، فعليك أن تتزود بمعرفة المزيد عنها وعن غيرها.
وأن تجعلها نبراس حياتك، وهداية قلبك، ونور أيامك.
لتحوز على سعادة الدنيا والآخرة.