اسمهُ سبحانه وتعالى الوهّاب لأنّه يَهِبُ كثيرا. فالكرماء يعطونك مرة، فإن طلبت منهم مرة ثانية، قد يتأففون لطلبك!
أما الله سبحانه فهو يَهِبُ عطاءات لا حد لها، ثم يرضى عنك إذا طلبت منه، بل إنه يأمرك أمرا أن تطلب منه. قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [سورة غافر: 60].
فهذا نبي الله زكريا عليه السلام يقول في دعائه العظيم: ﴿وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ [مريم: 4]، أي: لم أكن خائبا في دعواتي السالفة، بل أجبتها لي سبحانك! فأجب لي هذا الدعاء.
يقول ابن عاشور رحمه الله: «لم أكن فيما دعوتك من قبل مردود الدعوة منك"، أي: أنه قد عهد من الله الاستجابة كلما دعاه».
يُذهِل بالعطاء
إنّ كرماء بني آدم يهبون في العادة المال، أما الله فإن المال أقل ما يَهِبُك إياه! فهو يَهِبُ الحياة ذاتها، و يَهِبُ العقل، و يَهِبُ الذرية، بل و يَهِبُ النبوة، والولاية، و يَهِبُ المُلْك، ويَهِبُ الكرامات التي تُحيّر العقول، وتدهش الألباب.
نعم، يُذْهِل بالعطاء، فقد أعطى سليمان مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده، وأعطى زكريا الذرية بعد أن بلغ من الكِبَرِ عِتِيّا، وأعطى نوحا النصرة، فأنزل مطرا أغرق به كل كافر على وجه الأرض استجابة لدعائه.
شق لموسى البحر، ورفع عيسى إلى السماء، وأسرى بمحمد صلّى الله عليه وسلم إلى سِدرة المنتهى.
العُنصر الثالث
وكم استعجبت من سليمان عليه السلام، إذ كيف يقول: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [ص: ٣٥]. فكيف جمع بين الاستغفار من الذنب، والطلب؟
لم يطلب سليمان تلك اللحظة بيتا جميلا، ولا حتى قصرا منيفا، ولا جزيرة من ذهب؟ لا! بل طلب مُلكًا لا ينبغي لأحد من بعده، ثم ختم دعاءه باسم عظيم من أسمائه سبحانه، ختمه باسم يَصلح للتملق للحي الذي لا يموت، ختم دعاءه باسم الله الوهّاب. قال تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾ [ آل عمران: 8]
يريد سليمان مُلكًا خاصا به، فيعطيه الوهاب مُلكًا من أعجب الأملاك: سخّر له الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَاب، وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ!
فصار ينتقل من مشارق الأرض إلى مغاربها بالريح تنقله هو وحاشيته، والشياطين تغوص في أعماق البحار تجلب له أغلى الكنوز والجواهر، وتُشَيّد له أضخم القصور وأجملها.
ملأ سبحانه وتعالى حياتك بالاحتياجات، ثم قال لك: أنا الوهاب! ثم أنت تصر على عدم معرفتك بالعنصر الثالث من هذه المعادلة! وهو كما قال تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [سورة غافر: 60].
اطلب من الله، واجعل سقف دعواتك أعلى ما يمكن.
دعاءٌ بلا سقفٍ
لم يكن الأنبياء في كثير من دعواتهم يدعون بالقريب وإنما بالغريب!
فهذا نوحٌ عليه السلام عندما آذاه كفار قومه، كان المتوقع والقريب أن يدعو على قومه بالهلاك، ولكنه لم يفعل ذلك، بل عمم دعوته فقال: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ [نوح: 26]. فكان أن دعا على كل كافر على ظهر الأرض!
دعاء بالغ الغرابة.
وبقدر غرابته جاءت مسرعة إجابته! فقال الحق تعالى: ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ [القمر: ١٢،١١].
وهذا زكريا عليه السلام كان دعاؤه بالغ الغرابة أيضا!
رجل كبر سنه، ورَقَّ عَظْمِه، ونحل جسمه، واشتعل رأسه شيبا، وامرأته عاقر، ومع ذلك يكون دعاؤه هو: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ [الأنبياء: 89]
كل المؤشرات تجعل أن يُرزق مثل هذا بالولد في عداد المستحيلات!
هل رضخ زكريا لكون دعائه غريبا؟ كلا! بل زاده غرابة:
﴿فَهَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا . يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنۡ ءَالِ يَعۡقُوبَۖ وَٱجۡعَلۡهُ رَبِّ رَضِيّٗا﴾ [مريم: 5، ٦]...
هو لا يريد ولدا فقط، وإنما يريده بمواصفات نادرة جدا!
ومع ذلك يقول الوهاب سبحانه: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ﴾ [الأنبياء :٩٠]!
ومن مظاهر كرمه أنه يجازي القليل بالكثير، فهذه امرأة من بني إسرائيل سقت كلبا، فأدخلها جنة عرضُها السماوات والأرض!
ولك أن تقارن بين جنةٍ عرضها السماوات والأرض وشيء من الماء يشربه كلب!
وكيف أن مثل هذا العطاء مقابل هذا العمل لا يكون إلا من وهاب، يَهِبُ بلا حساب!