لله سبحانه وتعالى أسماء تشترك في معان وتفترق في أخرى! من بينها: الخالق والبارئ والمصور والبديع..
والإبداع في اسم الله «البديع»، يحمل معاني أخرى غير الإيجاد والخَلْق. الإبداع هو أن يخلق الشيء على غير مثال سابق.
إن لكل شيء في الكون، وأنا أعني حرفيا (كل شيء) إبداعٌ يخصه! أكرر (كل شيء)! فلا أعني مثلا الإنسان باعتباره شيئا، بل أعني أيضا كل ما يحويه الإنسان من خلايا وأنسجة وأعضاء وأجهزة!
بل تكوين الخلية ذاتها إبداع من بديع السماوات والأرض.. ولن يستطيع كتاب بحجم المجرة أن يأتي على ما أبدعه الله وصوَّرَه!
معجزة الصوت
فمما أبدعه الله تعالى في كونه وأوجده على غير مثال سابق، عَالَم الأصوات المكتظ بالحياة.
فالتنوع الصوتي إبداع!
خلق الله في حنجرة كل إنسان نبرة خاصة، وخامة خاصة، ولَمْسَةً شخصية، يصبح بها صوت الأنثى عميقا دافئا، وصوت الرجل قويا صَلْبًا، وصوت الأم حنونا كقلبها، وصوت الطفل بريئا كعينيه!
ونحن لا نحتاج إلى تعمق في معرفة تفاصيل صوتية حتى نندهش من إبداع الله تعالى لأصوات البشر.
اسمع القارئ الشهير «عبد الباسط عبد الصمد»، وكيف يؤدي نبرة الجواب الحادة، ويملؤها بشجن يذيب القلوب، وقارن بينها وبين ذات النبرة لدى القارئ شُعَيْشِع، مع أنهما ينتميان لنفس الطبقة.
إن الأصوات في حناجرنا كألوان الحياة.. إذا استطعت أن تتخيل حياة خالية من الألوان ستستطيع أن تتخيل كلاما خاليا من التميز، والخصوصية الصوتية.
العين
ومما أبدعه البديع سبحانه أن يرى الإنسان الصور والمشاهد! أن يبصر ما حوله.. فلو لم يكن يرى لتعثرت حياته، ولَتَوقّفَتْ عن سيرها!
ورؤيتك للألوان ليس شيئا لا بد منه ما دام أن لك عينين!
هناك مخلوقات لا ترى الألوان، وكل الأشياء التي تراها أنت زاهية نابضة بالفرح تراها هي بدرجات الرمادي!
دعني من هذه المخلوقات، سأحدثك عن زميلي في العمل، كنا نتحدث عن أوراق شجر صناعية خضراء متدلية من السقف، وفي وسط الحديث سألني بملامح جادة: ما لون هذه الأوراق؟
قلت: خضراء! ولكن لماذا تسأل؟
فقال: أنا لا أراها خضراء! أراها بنية! فأنا مُصاب بِعَمَى ألوان.
بحثتُ في هذا الأمر عبر الانترنت، وعلمت أن هناك نظارة ابتُكرت لتحويل الألوان التي يراها المصابون بهذا العمى إلى درجتها الطبيعية. وتأثرت كثيرا عندما شاهدتُ ذلك المقطع، الذي يرى فيه بعض المصابين بهذا المرض الألوان لأول مرة.
كانوا كالأصنام، وهم منبهرون بجمال الكون.، فلأول مرة يرونه على حقيقته ملونًا كما نراه نحن.
ماذا كان سيحدث لو كانت الحياة بلا ألوان! أو لو لم نكن نحن نميز الألوان؟
أين سيختفي ذلك الفرح الذي نشعر به وهو يتسلل إلى أرواحنا مع رؤيتنا للأشياء التي باللون الأصفر؟
حَدِّثْنِي عن الأشياء الزرقاء التي تشعرنا بالبهجة.. كيف ستؤدي مهمتها وقد سُلبت اللون الأزرق؟
اللون الأحمر الدافئ ماذا كان سيفعل في أرواحنا لو تحول إلى درجة رمادية معتمة؟
انظر فيما حولك.... إن الكون علبة ألوان ضخمة.. ستغدو لا شيء إن فَقَدَتْ هذه الميزة.
وفي أنفسكم
قال تعالى: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 21]
وقال في سياق آخر وتَحَدٍّ غريب عجيب: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53]
إن الله من العظمة بحيث يستطيع أن ينقل مسرح المعجزات إلى داخلك، ويجعلك أنت المعجزة الكونية المذهلة، فلم تعد المعجزة شيئا تراه أمامك، بل شيئا تحسه داخلك، وتشعر به في نبضك..
هنا تدرك معنى البديع، وأنه أتقن وأبْدَعَ كل شيء خلقه..
وأنّ بقائك طوال حياتك ساجدا له، لن يؤدي شكر نعمة واحدة من نعمه التي أبدعها، ووهبها لك.. دون أن تسأله إياها.