قد علمنا أن ليعقوب اثنا عشر ولدا، وإليهم تنسب أسباط بني إسرائيل - أي شعوبها - كلها، وأشرفهم وأعظمهم يوسف عليه السلام. وقال المفسرون إن يوسف وهو صغير، رأى كأن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر، قد سجدوا له، فقص ذلك على أبيه الذي عرف أن يوسف سينال منزلة عظيمة في الدنيا والآخرة، وأمر يوسف بألا يخبر إخوته بما رأى حتى لا يكيدوا له حقدا عليه.
كان إخوة يوسف يظنون أنهم أحق بمحبة أبيهم من يوسف وأخيه بنيامين، فتشاوروا على قتل يوسف، حتى اجتمعوا على إلقاء يوسف في بئر عميق، فلعله يلتقطه بعض المارة من المسافرين، وسألوا يعقوب أن يأخذوا معهم يوسف كي يرعى ويلعب معهم، فأخبرهم أنه يخشى أن يأكله الذئب وهم عنه غافلون، فأخبروه بأنهم عصبة، أي أنهم جماعة ولئن حدث ذلك فإذا هم الخاسرون. فلما ألقوا يوسف في البئر، أخذوا قميصه ولطخوه بدم لولد شاة، وذهبوا به إلى يعقوب وهم يبكون.
وقال إخوة يوسف لأبيه: إن يوسف قد أكله الذئب وهم يستبقون، وإنهم يعلمون أنه لا يصدقهم، وعلم يعقوب بما أضمروه من شر لأخيهم حسدا له، فقال لهم: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: 18].
أما يوسف فقد أرسل الله إليه وهو في البئر مسافرين أرادوا أن يستقوا من البئر، فتعلق يوسف بالدلو الذي أدلاه أحدهم، فلما رآه ذلك الرجل قال: يا بشارتي، وهموا بأن يأخذوه معهم، ولكن إخوة يوسف لحقوهم، وقالوا: هذا غلامنا، فاشتراه المسافرون منهم بثمن بخس، وذهبوا به إلى مصر.
كان الرجل الذي اشترى يوسف هو عزيز مصر، أي وزيرها واسمه إطفير بن روحيب، واسم امرأته راعيل وقيل: إن اسمها زليخا وربما يكون ذلك لقبها. وقد نشأ يوسف في بيت العزيز حتى بلغ أشده كما قال تعالى، وقد اختلف العلماء حول العمر الذي يعنيه ذلك، وحينها راودته امرأة العزيز عن نفسه، وهي ذات المال والجمال والمنصب والشباب، إلا أن يوسف كان نبيا من سلالة الأنبياء، عصمه الله من الفحشاء، فرفض دعوة امرأة العزيز إلى الفاحشة. قال تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [يوسف: 23].
واتجه يوسف نحو الباب هربا من امرأة العزيز، إلا أنها أمسكت به من الخلف، وحينها وجدا العزيز لدى الباب، فأخبرت زوجها بأنه كان يريد بها سوءا، واضطر يوسف لأن يقول إنها هي من راودته عن نفسه، وشهد رجل قريب إلى العزيز بصدق يوسف وكذب امرأة العزيز، وذلك لأن قميص يوسف كان مشقوقا من الخلف وليس من الأمام، فطلب العزيز من يوسف أن يكتم الأمر، وأمر زوجته بالاستغفار لذنبها والتوبة مما فعلت.
وانتشر خبر رغبة امرأة العزيز في يوسف من قبل نساء المدينة، فأحبت أن تظهر لهن أنها معذورة في حب ذلك الفتى، فأقامت لهن وليمة في منزلها وأحضرت لكل واحدة منهن سكينا، وكانت قد هيأت يوسف، وألبسته أحسن الثياب، وطلبت منه أن يخرج عليهن، فخرج وهو أحسن من بدر التمام، حتى اعتقدن أنه ليس بشرا، وإنما هو ملك كريم. وعادت امرأة العزيز تأمر يوسف أن يفعل ما أرادته منه من قبل، وإلا ستقوم بسجنه، وطلبت من هؤلاء النسوة أن يبلغوا يوسف بذلك، وحينها اختار يوسف أن يسجن على أن يفعل الفاحشة. قال عزّ وجلّ: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [يوسف: 33]. ودخل يوسف السجن بعدما اتفق العزيز وامرأته على سجنه لفترة من الزمن حتى تخمد أحاديث الناس حول ما جرى، وحتى يظن الناس أن يوسف هو من راود امرأة العزيز عن نفسها.
دخل يوسف السجن، وكان معه فتيان، قيل إن أحدهما ساقي الملك، والآخر خبازه، ورأى كل واحد منهما رؤية في الليلة نفسها، وقصاها على يوسف. فالأول رأى أنه يعصر عنبا في كأس الملك، والثاني رأى على رأسه ثلاث سلال من الخبز، والطيور تأكل منها. وقد فسر يوسف رؤيا الفتى الأول بأنه سيخرج من السجن وسيسقي الملك خمرا، والثاني بأنه سيصلب وتأكل الطير من رأسه. وطلب يوسف من الذي ظن أنه سينجو منهما أن يذكر أمره عند الملك وأنه قد حبس ظلما، ولكن الشيطان أنساه ذلك، وظل يوسف في السجن عدة سنوات أخرى.
ولم يتذكر الساقي أمر يوسف إلا عندما رأى ملك مصر رؤيا عجز الناس عن تفسيرها، وهي رؤياه لسبع بقرات ضعاف يأكلن سبع بقرات سمان، ورؤيا أخرى وهي لسبع سنبلات خضر في قصبة واحدة، يأكلهن سبع سنبلات يابسات. فقال الساقي للملك: إنه يعرف من يمكنه أن يفسر ما رأى، وذهب الساقي ليوسف في السجن وقص عليه ما رآه الملك في نومه، فقال يوسف إن تفسير ذلك هو وقوع سبع سنين من الخصب، ثم يتبعها سبع سنين من الجدب، ثم يأتي عام يأتيهم فيه الغيث والخصب. وقد أمر الملك بإحضار يوسف إليه، ولكن يوسف طلب من رسول الملك أن يسأل عنه النسوة اللاتي قطعن أيديهن، وكيف أنه لم يستجب إلى حثهن له على طاعة امرأة العزيز، فلما سئلن عن ذلك اعترفن بما وقع من الأمر، واعترفت بعدهن امرأة العزيز ببراءة يوسف وافترائها عليه، وحينها خرج يوسف من السجن.
تولى سيدنا يوسف عليه السلام خزائن مصر، فكان ذلك تكريما له، وكان وزير صدق. وجاء إخوة يوسف إلى مصر يطلبون طعاما بعد دخول البلاد في حالة الجدب، فعرفهم يوسف ولم يعرفوه، وحينما سألهم عن عددهم، قالوا: "كنا اثني عشر رجلا، فذهب منا واحد، وبقي واحد عند أبينا"، فأعطاهم ما طلبوه، وطلب منهم أن يأتوا في العام المقبل بأخيهم ذلك حتى يكيل لهم ما يرغبون وزيادة.
ورجع إخوة يوسف إلى أبيهم يسألونه أن يأخذوا معه بنيامين كي يزداد كيلهم، فطلب منهم أن يعاهدوه على أن يعودوا به إلا أن يغلبوا عن ذلك، فعاهدوه، وأخذوا معهم بنيامين إلى يوسف. وذهب الإخوة إلى مصر، وحينما رأى يوسف بنيامين أخبره سرا أنه أخوه، وأمره بكتم ذلك، وطلب يوسف من فتيانه أن يضعوا سقايته التي كان يشرب بها ويكيل بها للناس في متاع بنيامين، وبعدها اتهمهم بسرقته وأخذ يفتش في متاعهم حتى وجدها في متاع بنيامين، فأراد يوسف أن يسجنه، فطلب إخوة يوسف أن يترك بنيامين لأجل أبيهم الشيخ الكبير، وأن يأخذ واحدا منهم مكانه، ولكنه رفض، فرجع إخوة يوسف إلى أبيهم وهم يشعرون بالخزي، وقالوا له إن بنيامين حبس لأنه سرق من الملك، فلم يصدقهم، وقال لهم كما قال تعالى: ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف: 83]، وفي قوله: (يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا)، كان يعقوب يقصد يوسف وبنيامين، وابنه الأكبر روبيل الذي رفض الرجوع معهم حتى يتمكن من استعادة بنيامين.
وقد حزن يعقوب حزنا شديدا، وأصيب بالعمى من كثرة بكائه، وتذكر يوسف وجعل يكتم الكمد والأسى في قلبه، ثم طلب من أولاده أن يذهبوا بحثا عن يوسف وأخيه وألا ييأسوا من فرج الله، كما في قوله عز وجل: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87].
وعاد إخوة يوسف إلى مصر، وهم يطلبون منه الكيل مرة أخرى، وأن يتصدق عليهم برد أخيهم بنيامين إليهم، فعطف عليهم لما رأى ما حل بهم من الهوان والمسكنة، وقال لهم: هل تذكرون الآن ما فعلتم بيوسف وأخيه منذ زمن بعيد؟ وحينها علم إخوته أنه هو يوسف، واعترفوا بأن الله قد فضله عليهم وأعطاه ما لم يعطهم، واستحيوا من تذكر فعلتهم المنكرة، فأخبرهم يوسف بأنه قد عفا عنهم، وأنه لن يعاتبهم على شيء قد مضى وانقضى، ودعا الله لهم بالعفو والمغفرة، وطلب منهم يوسف بعدها أن يأخذوا قميصه الذي على جسده، فيضعوه على عيني أبيهم، فرجع الإخوة إلى أبيهم وفعلوا ما طلب يوسف منهم، فارتد بصر يعقوب إليه، وطلبوا منه أن يستغفر لهم الله على ما فعلوه، فوعدهم بذلك. وسافر يعقوب وزوجته وأولاده إلى مصر للقاء يوسف، وسجدوا جميعا تعظيما وتكريما له، وقد كان ذلك معمولا به في سائر الشرائع حتى تم تحريمه في ديننا.