هو إبراهيم بن تارخ، والذي ولد ببابل، وكان أول دعوته لأبيه الذي كان يعبد الأصنام، وكانت دعوته تلك بألطف ما يكون كما بينها الله تعالى في سورة مريم، والتي انتهت باستغفار إبراهيم لأبيه، والذي رفض دعوة إبراهيم لعبادة الله الواحد.
ذكر الله تعالى مناظرة إبراهيم لقومه في سورة الأنعام، حينما رأى كوكبا أو نجما في السماء فقال لهم هذا ربي، فلما اختفى قال لهم لا أحب الآفلين أي الغائبين، فالله لا يغيب أبدا، وكرر إبراهيم الأمر نفسه مع القمر والشمس؛ واللذين غابا أيضا. وحينما ناظر إبراهيم قومه، دلهم بذكاء على أن الكواكب النيرة لا تصلح للألوهية؛ لأنها مخلوقة ومسخرة، فهي تطلع تارة وتأفل أخرى فتغيب عن العالم، والرب تعالى لا يغيب، ولا يغيب عنه شيء، ولا تخفى عليه خافية. وقيل إن أول الكواكب التي أشار إليها إبراهيم هي كوكب الزهرة، ثم انتقل بعدها إلى القمر، ثم انتقل بعدها إلى الشمس التي هي أشد الأجرام السماوية ضياء وبهاء.
ومن الأمثلة الأخرى على ذكاء إبراهيم في دعوة أهله إلى ترك عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، هو ما فعله حينما ادعى مرضه؛ كي لا يحضر عيدا يقام كل عام خارج البلد الذي يسكنه هو وقومه، وذلك حتى يذهب ويحطم أصنامهم، وهو ما قام به بالفعل، ولكنه ترك كبير أصنامهم، وقيل إنه وضع القدوم الذي حطم به الأصنام في يد كبيرهم، إشارة إلى أنه هو من فعل ذلك. وحينما عاد القوم سألوا إبراهيم إذا كان هو من قد فعل ذلك بأصنامهم، فأجابهم كما قال تعالى في سورة الأنبياء: ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ.فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ. ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ﴾ [سورة الأنبياء: 63-65] أي إنك قد علمت يا إبراهيم أنها لا تنطق، فكيف تأمرنا بسؤالها؟ وحينها أجابهم إبراهيم بسؤال آخر، وهو أنهم كيف يعبدون إذا أصناما لا تضر ولا تنفع، وهم كانوا صانعيها من الأساس؟
وهنا عدل القوم عن مجادلة إبراهيم لما غلبتهم حجته، وعزموا على أن يحرقوه بالنار عقابا له على ما قاله وما فعله بحق آلهتهم.
جمع قوم إبراهيم حطبا من جميع ما يمكنهم من البقاع، ووضعوا إبراهيم بعد أن قيدوه في كفة منجنيق، وكان صانعه رجلا كرديا هو أول من صنع المجانيق، وهي الآلة التي ترمى بها الحجارة في الحرب. وحينما ألقي إبراهيم من كفة المنجنيق إلى النار قال: "حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"، وحينها أصبحت النار بردا وسلاما على إبراهيم.
قال أبو هريرة: "أحسن كلمة قالها أبو إبراهيم، إذ قال لما رأى ولده على تلك الحال -أي في النار-: "نعم الرب ربك يا إبراهيم".
قال المفسرون إن ذلك الملك الذي ادعى لنفسه الربوبية، هو ملك بابل واسمه النمرود بن كنعان، وقيل إن اسمه نمرود بن صالح، وقد كان أحد ملوك الدنيا الأربعة.
دعا إبراهيم الملك النمرود لعبادة الله الواحد، بعد أن طغى وبغى في الأرض، وادعى الربوبية، فلما قال له إبراهيم إن الله هو من يحيي ويميت، أخبره النمرود أن بإمكانه هو أيضا أن يحيي ويميت، فإذا أتى برجلين قد تحتم قتلهما، فقتل الأول وعفا عن الآخر، فكأنه قد أحيا وأمات. فأخبره إبراهيم بأن الله يأتي بالشمس من المشرق، وتحداه أن يأتي هو بها من المغرب، فغلب النمرود حينها، وقال تعالى في ذلك الموقف: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [البقرة: 258].
هجر إبراهيم قومه ببابل وسافر إلى أرض الشام، وكانت معه امرأته سارة وقد كانت عاقرا لا تنجب، وكان معه أيضا ابن أخيه، وهو نبي الله لوط بن هاران بن آزر. وقيل إن إبراهيم التقى بسارة قبل الشام وكانت ابنة ملك حران، وتزوجها على ألا تغير دينها، ولكن المشهور هو القول الأول. وحينما قدم إبراهيم الشام، أوحى الله إليه أن ينطلق مرتحلا إلى مصر، وهنالك كذب إبراهيم عليه السلام كذبته الثالثة.
"قال رسول الله: لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: قوله حين دعي إلى آلهتهم، فقال: "إني سقيم"، وقوله: "بل فعله كبيرهم هذا"، وقوله لسارة: "إنها أختي".
وقصة ذلك أن إبراهيم طلب من سارة أن تدعي أنها أخته، أمام أحد الجبابرة بمصر حينما سأله عنها، وحينما أرسل ذلك الرجل لسارة، لم يتمكن من المساس بها بعد أن حاول ثلاث مرات، وذلك بعد أن دعت الله عز وجل بألا يمكنه منها. فقال الجبار عن سارة بعد ذلك: إنها ليست بإنسان وإنما هي شيطان، وأمر بأن تعطى لها جارية اسمها هاجر، فعادت سارة إلى إبراهيم وقالت له: "كفى الله كيد الظالم، وأخدمني هاجر". وعاد إبراهيم من بلاد مصر إلى الأرض المقدسة التي كان فيها، ومعه أنعام وعبيد ومال وفير، وبصحبتهم هاجر القبطية المصرية.
سأل إبراهيم الله ذرية طيبة، فبشره الله بحدوث ذلك، وبعد مرور عشرين عاما من زواجه بسارة وعدم إنجابها، طلبت منه سارة أن يتزوج هاجر لتنجب له، وهو ما حدث فعلا، ولكن سارة غارت من أمتها التي تعاظمت نفسها حينما حملت من إبراهيم. فأذن إبراهيم لسارة أن تفعل ما تشاء بهاجر، والتي هربت خوفا من سيدتها، ولكنها عادت حينما بشرها ملك من الملائكة بأنها ستلد ابنا وتسميه إسماعيل، وأن شأنه سيكون عظيما. وأنجبت هاجر إسماعيل، وقيل إنها كانت تبلغ من العمر ستا وثمانين سنة، وكان ذلك قبل مولد إسحاق بثلاث عشرة سنة؛ وإسحاق هو ابن إبراهيم الذي بشر به الله إبراهيم من زوجته سارة.
اشتدت غيرة سارة من هاجر بعد مولد إسماعيل، وطلبت من إبراهيم أن يذهب بها وبولدها بعيدا عنها، فذهب إبراهيم بهاجر وإسماعيل الذي كان رضيعا إلى مكة، عند البيت وعند دوحة فوق زمزم، ولم يكن بمكة يومئذ أحد، ولم يكن بها ماء، وتركهما وحيدين هناك. وقبل أن يرحل إبراهيم سألته هاجر: " آلله أمرك بهذا؟" فأجابها: "نعم" فردت هاجر: "إذا لن يضيعنا".
ودعا إبراهيم ربه قائلا: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: 37].
وسعت هاجر بعد رحيل إبراهيم بين جبل الصفا وبطن الوادي وصولا إلى المروة بحثا عن الماء، فعلت ذلك سبع مرات، فوجدت ملكا عند موضع زمزم يبحث في الأرض حتى ظهر الماء، فشربت وأرضعت ولدها، وقال لها الملك قبل رحيله: "لا تخافي الضيعة فإن ها هنا بيتا لله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله". وسكنت هاجر وابنها في هذا الوادي، حتى مر بهما رفقة فنزلوا في الوادي وأنزلوا أهليهم معهم، فشب إسماعيل بينهم، وتعلم العربية منهم، وتزوج امرأة منهم.
وعاد إبراهيم إلى حيث يعيش إسماعيل بعد وفاة هاجر، وأخبره أن الله أمره أن يبني في هذا المكان بيتا، وعندئذ رفعا القواعد من البيت، فكان إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني وهما يقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: 127].
رأى إبراهيم عليه السلام في منامه أنه يؤمر بذبح ابنه، وهذا اختبار من الله عز وجل لإبراهيم بأن يذبح ولده الذي جاءه على كبر. فأخبر ابنه بما رآه في منامه، وأجابه إسماعيل بأن يفعل ما يؤمر به، وبأنه سيكون من الصابرين. فلما أسلما واستعدا لتنفيذ أمر الله، وكبّ إبراهيم ابنه على وجهه، وسمى وكبر، وتشهد الولد للموت، وعندها نودي من الله تعالى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ. وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: 104 - 107]، أي قد حصل المقصود من اختبارك وطاعتك يا إبراهيم، فذلك كان البلاء المبين أي الاختبار الواضح، وسنفدي ابنك بذبح عظيم، والذي اتفق الجمهور على أنه كبش أبيض أعين أقرن، أي عظيم سواد العين، وكبير القرنين.
ويقال إن إبراهيم عليه السلام تُوفي حينما كان عمره مئتي سنة، ودفنه ابناه إسماعيل وإسحاق بمغارة بقرية حبرون في أرض كنعان.