أساليبُ التطهير:
أعلنت الوكالة اليهوديَّة في الخامس عشر من أيار/مايو عام ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثمانيةٍ وأربعين ميلاديًّا (١٩٤٨م) فور مغادرة بريطانيا قيام دولة يهوديَّة في فلسطين باعتراف القوَّتَينِ العُظمَيَينِ آنذاك؛ أمريكا والاتِّحاد السوفيتيّ، مع دخول القوَّات المسلَّحة النظاميَّة العربيَّة فلسطين في اليوم نفسه. وقد أعلنتْ القيادة الصهيونيّة صراحةً - قبل شهرين من نهاية الاحتلال البريطانيّ- أنَّها ستسعى للاستيلاء على البلد وطرد الفلسطينيِّين بالقوَّة، وهو ما عُرِف بالخطَّة "دالِتْ"، التي بدأت بتحديد المكان: فكان للدولة اليهوديَّة مناطق النقب والساحل والسهول الشرقيَّة (مرج ابن عامر وسهل بيسان) والجليل الأسفل، ولكنَّهم بدأوا التحضير لاحتلال الأراضي الواقعة بين مستعمراتهم المنعزلة في الأطراف القصوى للدولة الانتدابيَّة. ثمَّ خطوة إيجاد الوسائل: التي كانت ببناء قدرة عسكريَّة يهوديَّة ملائمة وصلت في عشية حرب عام ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثمانيةٍ وأربعين ميلاديًّا (١٩٤٨م) نحو خمسين ألفَ جنديٍّ يهوديٍّ (٥٠٠٠٠)، منهم ثلاثون ألفِ جنديٍّ مقاتلٍ (٣٠٠٠٠)، والبقيَّة احتياط، واعتمدوا على سلاحَي جوٍّ وبحر صغيرين، ووقفت في مواجهتهم مجموعات فلسطينيَّة شبه عسكريَّة لا تتجاوز سبعة ألافِ مقاتل (٧٠٠٠)، بالإضافة إلى ألفِ متطوِّع (١٠٠٠) من العالم العربيّ دخلوا فلسطين في فبراير، وزادوا إلى ثلاثةِ آلافِ (٣٠٠٠) في الأشهر القليلة التالية.
وخلال المراحل المبكِّرة للتطهير العِرقيّ (حتَّى مايو عام ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثمانيةٍ وأربعين ميلاديًّا (١٩٤٨م)، كان بضعة آلاف من المقاتلين الفلسطينيِّين غير النظاميِّين يواجهون عشرات الآلاف من الجنود اليهود المدرَّبين جيِّدًا، وعلى هامش القوَّة العسكريَّة اليهوديَّة، نشطت مجموعتان متطرِّفتان شهيرتان، وهما عصابتا "الإرغون" (إيتْسِلْ) و"شتيرن" (ليحي)، اللتان قامتا مع الهاغاناه والبالماخ باحتلال القرى وتسليمها لقوَّاتٍ يهوديَّة أقلَّ قدرةً قتاليَّة.
اختيار الوسائل: الانزعاج من حياة طبيعيَّة: (كانون الأوَّل/ديسمبر عامَ ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وسبعةٍ وأربعين ميلاديًّا (١٩٤٧م):
أعلنت الهيئة العربيَّة العليا إضرابًا لمدَّة ثلاثة أيَّام ونظّمت تظاهراتٍ جماهيريَّةً احتجاجًا على قرار التقسيم، فبدأتْ تقع أحداثٌ أكثر عنفًا ، وصلت لقيام عصابة "أبو كشك" بنصب كمين لحافلة يهوديَّة، وهو ما شكّل بداية حرب عام ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثمانيةٍ وأربعين ميلاديًّا (١٩٤٨م). ولكنّ معظم الفلسطينيِّين بدأوا في العودة لحياتهم الطبيعيَّة بعد مرور ثلاثةِ أيَّامٍ معتقدين أنّ ما يحدث ليس بجديدٍ على انتقالهم من يدٍ إلى أخرى، ولمْ تكن لديهم فكرةٌ عمَّا ينتظرهم بحقٍّ من الصهاينة الذين استغلُّوا كلَّ حركة دفاع من الفلسطينيِّين للقيام بعنفٍ أكبر واستيلاء أعلى بحجَّة "الردِّ الانتقاميّ".
تغيُّر المزاج في الهيئة الاستشاريَّة: من الردِّ الانتقاميِّ إلى بثِّ الذُّعر:
تصدّر يهوديٌّ يَعرف اللغة العربيَّة "عزرا دانين" المداولات في الهيئة الاستشاريَّة لـ"بن - غوريون"، مقترحًا على الهيئة إقامة أعمال عنف ضدّ الفلسطينيِّين لإرعابهم كي لا يعودوا إلى منازلهم بعد هربهم حتَّى يهدأ الوضع مجدَّدًا.
كانون الأوَّل/ديسمبر عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وسبعةٍ وأربعين ميلاديًّا (١٩٤٧م): نشاطات مبكِّرة:
وضع "بن - غوريون" سياسةً أعنف للتطهير في هذا الوقت، حيث قامت وحدات من "الهاغاناه" بدخول القرى بحثًا عن "المتسلِّلين" وتوزيع منشورات تحذيريَّة من التعاون مع جيش الإنقاذ، ورمي الرصاص بعشوائيَّة على مَن يقاوم، كما حدث في حادثة القريتين الشهيرتين "دير أيوب" و"بيت عفّا" بمهاجمتهما وإطلاق النار عشوائيًّا، ثمَّ إخلائهما بالقوَّة في أبريل عام ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثمانيةٍ وأربعين ميلاديًّا (١٩٤٨م)، ثمَّ تدميرهما كُلِّيًّا. واستهدفوا المناطق الحضرية أيضًا في فلسطين، واختيرت حيفا لتكون الهدف الأوَّل.
كانون الثاني/يناير عام ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثمانيةٍ وأربعين ميلاديًّا (١٩٤٨م): وداعًا للردود الانتقاميَّة:
رافقت هذه العمليَّات أعمال إرهابيَّة من منظَّمة "الإرغون" و"شتيرن" بزرع الخوف في أحياء حيفا العربيَّة ومدن أخرى، بدأت بنسف مبنى السرايا في يافا (مقرّ اللجنة المحليَّة القوميَّة) بواقع ستَّةٍ وعشرين قتيلًا (26)، ونسف فندق سميراميس في القطمون في القدس الغربيَّة، وقتل أناس كثيرين بينهم القنصلُ الإسبانيُّ، حتَّى صارت مثل هذه الأعمال أحداثًا يوميَّة في حيفا.
الحلقة الدراسيَّة الطويلة: ٣١ كانون الأوَّل/ديسمبر عام ١٩٤٨م - ٢ كانون الثاني/يناير عام ١٩٤٨م:
صرّح "يوسف فايتس" مدير الصندوق اليهوديّ في جلسة الحلقة الدراسيَّة الطويلة لاستعمار القرى أنَّ هذه الأعمال العنيفة ليست كافيةً، رَغم مذبحة بلد الشيخ التي حدثت قبل الجلسة بقليلٍ، وقد حان الوقت لتطبيق خطط التطهير في الواقع بدءًا بالشمال الفلسطينيّ. فأصدر "بن - غوريون" في ٣١ كانون الثاني/يناير أمره مباشرةً إلى قائد المدينة العسكريّ "دافيد شالتيئيل" بتوسيع السيطرة بتدمير حيِّ الشيخ جرّاح وأحياء أخرى وتوطينٍ فوريٍّ لليهود بها.
شباط/فبراير عام ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثمانيةٍ وأربعين ميلاديًّا (١٩٤٨م): صدمة ورعب:
كانت محاولة الصهاينة لتصوير الفلسطينيِّين والعرب عامَّةً بعد دفاعاتهم التي أدَّت إلى مقتل حوالَي أربعمئةِ (٤٠٠) مستوطن يهوديّ، بأنَّهم نازيُّون وسيلة في حملة علاقات عامَّة تعمَّدوا استخدامها لضمان ألَّا تضعف عزيمة الجنود اليهود. وقام "بن - غوريون" في شباط/فبراير بتوسيع الهيئة الاستشاريَّة بإضافة ممثِّلي الصهيون المسؤولين عن التجنيد وشراء الأسلحة وفرض تجنيد إجباريٍّ على المجتمع اليهوديّ .
آذار/مارس عام ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثمانيةٍ وأربعين ميلاديًّا (١٩٤٨م): وضع اللمسات الأخيرة على المخطَّط الرئيس:
نوقِشت الخطَّة "دالِتْ" في شباط/فبراير عام ١٩٤٨م، ووُضعِتْ لمساتها الأخيرة في آذار/مارس عام ١٩٤٨م، وقُوبِل هذا بهجماتٍ عنيفة انتقاميَّة من جيش الإنقاذ الفلسطينيّ على المستعمرات المعزولة، حتَّى اقترح بعض أعضاء الهيئة الاستشاريَّة الاستمرار في عمليَّات التطهير باعتبارها أفضل وسيلة لحماية الطرق المؤدِّية للمستعمرات، وكان همُّهم الرئيس طريق تل أبيب - القدس. وبعد أيَّام من طباعة الخطَّة "دالِتْ"، وُزِّعتْ على قادة ألوية الهاغاناه الاثنَي عشر، لكلِّ قائد وصفٌ مفصَّل للقرى الواقعة في مسرح عمليَّاته لتدميرها وطرد أهلها.