الفصلُ الثاني: نحوَ دولةٍ يهوديَّة حَصرًا

 

الدافع الصهيونيّ الأيديولوجيّ

برزت الصهيونيّة في أواخر الثمانينيَّات من القرن التاسع عشر في أوروبا الوسطى والشرقيَّة كحركة إحياء قوميّ؛ نتيجة الضغط على اليهود لاختيار الاندماج الكامل أو الاضطهاد الدائم، ومع بداية القرن العشرين، اتَّجهتْ أنظارهم لاستعمار فلسطين. فجعلتْ الصهيونيّة اليهوديّة علمانيَّة قوميَّة، خلافًا لما كان الدين اليهوديّ  يأمر به؛ وهو انتظار مجيء المسيح قبل عودة اليهود إلى أرض فلسطين كشعبٍ يتمتَّع بالسيادة في دولةٍ دينيَّةٍ يهوديّةٍ.

كانت الصهيونيّة مزيجًا من أيديولوچيا قوميَّةٍ وممارسةٍ استعماريةٍ بنسبة خمسةٍ في المِئة (٥٪) من مجموع سكَّان فلسطين حتَّى وقت احتلال بريطانيا لفلسطين عام ألفٍ وتِسْعِمِئةٍ وثمانيةَ عشر ميلاديًّا (١٩١٨م). وبدأ أفراد النخبة المحليَّة من سكَّان فلسطين العرب الأصليِّين يعتقدون أنَّ احتلال بريطانيا لفلسطين وقدوم اليهود اللاجئين لها جزء من الاندفاعة الأوروبيَّة التبشيريَّة والاستعماريَّة، ولكنَّ شعورَهم بالخطر من هذه الكارثة لمْ يُترجَم إلى استعدادات كافيةٍ لمواجهته.

وكانت الرواية الرسميَّة لاستعمار فلسطين هي إنشاء دولةٍ يهوديَّة للنجاة من اضطهاد الغرب ومذابحهم، لكنّ الرواية الحقيقية الأكثر انتقادًا اليوم تربط الدافع الصهيونيّ لاختيار فلسطين بالذات بالتداخل الوثيق مع الإيمان المسيحيّ بالعصر الألفيّ السعيد الذي شاع في القرن التاسع عشر، لانتزاع فلسطين "المسيحيَّة" من العثمانيِّين. فبدأ نزاعٌ مستديم على أرض فلسطين في اللحظة التي أعطى فيها وزير الخارجيَّة البريطانيّ "اللورد بلفور" وعده للصهاينة بإنشاء وطنٍ قوميٍّ لليهود في فلسطين عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وسبعةَ عشرَ ميلاديًّا (١٩١٧م).

 

التحضيراتُ العسكريَّة:

منذ بداية وعد بلفور، سمحت السلطات البريطانيَّة الانتدابيَّة في فلسطين للصهاينة بإنشاء كيان مستقلٍّ لهم بمثابة بنية تحتيَّة لدولتهم المزعومة. وفي أواخر الثلاثينيَّات، بدأت تحضيرات الصهاينة لخططٍ عنيفةٍ للاستيلاء على الأرض إن لمْ تنجح الخطط الدبلوماسيَّة، بمساعدة الضابط البريطانيّ "أُورد تشارلز وينغيت" الذي اقترح عليهم إقامة جيش أوَّلًا لحماية الأعداد المتزايدة من المستعمرات اليهوديَّة في فلسطين من العرب المُعادين لهم وطردهم بالقوَّة . وأحدث "وينغيت" تغييرًا جذريًّا في منظمة "الهاغاناه" الرئيسة شبه العسكريَّة التابعة لليهود في فلسطين، والتي نشأت عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وعشرين ميلاديًّا (١٩٢٠م)، واتَّخذت اسمها من كلمة "الدفاع" بالعبريَّة، حتَّى طبَّقوا ما تعلَّموه من "وينغيت" عسكريًّا في أثناء الثورة العربيَّة من عام ألفٍ وتسِعِمِئةٍ وستَّةٍ وثلاثين ميلاديًّا وحتَّى عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وتسعةٍ وثلاثين ميلاديًّا: (١٩٣٦م -١٩٣٩م) بزرع الخوف في قلوب الفلسطينيِّين القريبين من المستعمرات.

 

ملفَّاتُ القرى:

أُنشِئ الصندوق القوميّ اليهوديّ عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وواحد ميلاديًّا (١٩٠١م) كأداة رئيسة لاستعمار فلسطين ووكالةٍ لشراء الأراضي الفلسطينيَّة التي جرى توطين اليهود المهاجرين فيها، واقترن معظم نشاطاته باسم مدير دائرة الاستيطان "يوسف فايتس"، بأولويَّة تسهيل طرد المزارعين الفلسطينيِّين العاملين بأجرٍ أو في مقابل جزء من المحصول، من الأراضي التي اشتراها اليهود من مُلَّاكٍ غائبين يعيشون بعيدًا عن أراضيهم. ولكنَّ تأثيرَ الصندوق كان ضئيلًا بسبب قلَّة الموارد الصهيونيّة وبسبب المقاومة الفلسطينيَّة الشرسة؛ فلمْ يستطع الصهاينة امتلاك سوى ثمانيةٍ ونصف في المِئة تقريبًا (٥,٨٪) من أراضي فلسطين بعد انتهاء الانتداب البريطانيِّ عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وأربعةٍ وثمانين ميلاديًّا (١٩٨٤م). وحينها ظهر "يتسحاق بن - تسفي" الذي أصبح ثانيَ رئيسٍ لدولة الاحتلال فيما بعد وضع مخطَّطات للقرى الفلسطينيَّة من الناحية الطوبوغرافيَّة لمعرفة القرى القديمة من الجديدة التي تمَّ بناؤها خلال فترة الاحتلال المصريّ لفلسطين في ثلاثينيَّات القرن التاسع عشر لتسهيل استيلاء الهاغاناه عليها. وهذه المخطَّطاتُ جميعُها تمَّت في مكان سرِّيٍّ بمنزل "مارغو ساديه" زوجة "يتسحاق ساديه" أحد أعضاء الهاغاناه بعيدًا عن أعين البريطانيِّين الذي علموا مسبقًا بخطط الصهاينة ولمْ يتمكَّنوا من الوصول لمخبئهم. حتَّى نُقلت دائرة رسم الخرائط إلى البيت الأحمر عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وسبعةٍ وأربعين ميلاديًّا (١٩٤٧م).

أمَّا آخر تحديث لملفَّات القرى فقد جرى عام ١٩٤٧م بالتركيز على إعداد قوائمَ بالأشخاص المطلوبين في كلِّ قريةٍ من العرب، وقد استخدمت القوَّات اليهوديَّة هذه القوائم عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وتِسعةٍ وأربعين ميلاديًّا (١٩٤٩م) في عمليَّات تفتيشِ واعتقالِ المطلوبين الذين لهم علاقة وثيقة بالحركة الوطنيَّة الفلسطينيَّة  وزعيمها المفتي الحاج "أمين الحسينيّ"، ثمَّ إعدامِهم بالرصاص أمام أهالي القرية.

 

في مواجهة البريطانيِّين: من عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وخمسةٍ وأربعين ميلاديًّا، وحتَّى عامِ ألفٍ وتِسعِمِئة وسبعة وأربعين ميلاديًّا: (١٩٤٥م - ١٩٤٧م):

أدرك القادة الصهيونيُّون أنّ العَقبة الوحيدة في طريقهم للاستيلاء على فلسطين تتمثّل في الوجود البريطانيّ لا في عرب فلسطين بعد الحرب العالميَّة الثانيَّة، فشرعوا في إعداد حملة لإخراج البريطانيِّين مع مواصلة وضع الخطط للاستيلاء على الريف الفلسطينيّ.

 

دافيد بن - غوريون: المهندس: 

وُلد "دافيد بن - غوريون" عام ألفٍ وثمانِمِئةٍ وستَّةٍ وثمانين ميلاديًّا (١٨٨٦م) في بلونسك في بولندا (التي كانت جزءًا من روسيا القيصريَّة)، وجاء لفلسطين عامُ ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وستَّةٍ ميلاديًّا (١٩٠٦م) كصهيونيٍّ متحمِّسٍ ليقود الحركة الصهيونيّة منذ أواسط العشرينيَّات من القرن الماضي حتَّى أواسط الستينيَّات منه. وعُرِف بقامته القصيرة وشعره الأبيض المسحوب للوراء وبزّته الخاكية الدائمة. وصعد السلَّم القياديَّ كزعيمٍ لاتِّحاد عمَّاليٍّ، ثمَّ انهمك في تدبير شؤون الدولة اليهوديَّة التي كانت طور الإنشاء، حيث وافق على عرض البريطانيِّين عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وسبعةٍ وثلاثين ميلاديًّا (١٩٣٧م) بإقامة دولة يهوديَّة على جزءٍ من فلسطين مُؤَمِّلًا توسيعها فيما بعد. فطرح علنًا المطالبة بكامل فلسطين عام ألفٍ وتِسعِمِئة واثنينِ وأربعين ميلاديًّا (١٩٤٢م)، لكنَّ حكومةَ العمَّال البريطانيَّة برئاسة "كليمنت أتلي"، التي أتت بعد الحرب العالميَّة الثانية، كان لديها خططٌ أخرى لفلسطين بالبحث عن حلٍّ يلبِّي رغبات ومصالح السكَّانِ الأصليِّين في فلسطين، خاصَّةً بعد رغبة يهود أوروبا في الهجرة للطرف الآخر من المحيط الأطلسيّ بدلًا من الشرق الأوسط (أي البحث عن حلٍّ ديموقراطيّ). لكنَّ "بن غوريون" استمرَّ في وضع الخطط للاستعمار، حتَّى وصل للخطَّة (د) (دالِتْ) التي حسمت مصير الفلسطينيِّين القاطنين داخل الأراضي التي أراد القادة الصهاينة الاستيلاء عليها.

 


التطهير العرقي في فلسطين
التطهير العرقي في فلسطين
 إيلان پاپه
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00