شكّل موت صديق طفولتي جوش، النقطة التي أستطيع تحديدها بأكبر قدر من الوضوح في حياتي. إنها النقطة التي أقول: قبلها، وبعدها.
كنت قبل تلك المأساة شخصا معدوم الطموح تسكنه الأوهام، وكنت شخصا محبوسا ضمن هاجس خيالاتي عن نظرة العالم إلي. أما بعد المأساة فقد تحولت إلى شخص جديد، مسؤول، مُجتهد، ومحب للمعرفة.
أمر غريب أن يكون موت شخص ما، هو الشيء الذي منَحَنِي الإذن بأن أعيش أخيرا.
ولعل أسوأ لحظة في حياتي كانت أيضا تلك اللحظة التي غيّرتني أكثر من أية لحظة أخرى.
الموت يخيفنا. ولأنه يخيفنا، فإننا نتجنب التفكير فيه والحديث عنه، بل نتجنب حتى الإقرار به أحيانا، حتى عندما يصيب شخصا قريبا منا.
لكن الموت، بطريقة غريبة، هو الضوء الذي يقاس به ظل معنى الحياة كله. ولولا وجود الموت، لبدا لنا كل شيء معدوم الأهمية، ولصارت القيم والمقاييس كلها صفرا.
فاز إرنست بيكر بجائزة بوليتزر عن كتابه "إنكار الموت"، الذي صار واحدا من أكبر الأعمال الفكرية أثرا خلال القرن العشرين، لأنه أحدث هزة في مجالي علم النفس والأنثروبولوجيا، وقدّم أطروحات فلسفية عميقة لازال أثرها باقيًا حتى اليوم.
يطرح كتاب "إنكار الموت" فكرتين أساسيتين:
الأولى، هي أن الإنسان كائن فريد من حيث إنه الوحيد القادر على تصور نفسه والتفكير فيها بشكل مجرد. فأنت لا تجد الكلاب أو القطط مثلا جالسة هنا وهناك قلقة على حياتها المهنية، أو تُفكر في الأخطاء التي ارتكَبَتَها في الماضي. أما نحن البشر، فإننا ننعم بالقدرة على تخيل أنفسنا في حالات افتراضية، وعلى تأمل الماضي والمستقبل، ونحن ندرك حتمية موتنا عند نقطة ما، وبسبب هذا الإدراك لدينا ما يطلِقُ عليه بيكر اسم "رعب الموت" وهو قلق وجودي عميق يؤثر على كل ما نفكر به وكل ما نفعله.
والثانية، هي أن للإنسان نفسين، النفس الأولى هي النفس الجسدية وهي التي تأكل وتنام وغيرها، والنفس الثانية هي نفسنا المتخيلة، والتي ما هي إلا مجموعة من الأفكار، تُمثّل هويتنا.
يدرك كل واحد منا، عند مستوى ما، أن نفسه الجسدية سوف تموت آخر الأمر. وحتى نعوض عن خوفنا من الخسارة المحتومة لنفسنا الجسدية، نحاول إنشاء نفس متخيلة قادرة على العيش إلى الأبد. هذا هو السبب الذي يجعل الناس مهتمين كثيرا بوضع أسمائهم على المباني والتماثيل، وعلى الكتب أيضا. يطلق بيكر على هذا المسعى اسم "مشروعنا للخلود".
يقول بيكر بأنّ على الناس أن يضعوا نفوسهم المتخيلة موضع التساؤل، وأن يحاولوا قبول حقيقة أنهم سيموتون، ويطلق بيكر على هذا اسم "الترياق المُر".
صحيح أن الموت أمر سيء، لكنه محتوم. وعلينا ألا نحاول تجنب هذا الإدراك بل أن نتصالح معه إلى أقصى حد نستطيعه.
قال مارك توين: "إن الخوف من الموت نابع من الخوف من الحياة، والإنسان الذي يعيش ملء حياته يكون مستعدا للموت في أية لحظة".
إن مواجهة حقيقة فنائنا أمر في غاية الأهمية لأنه يزيل عنا كل ما في حياتنا من قيم تافهة سطحية وهشة. وفي حين ينفق أكثر الناس أيامهم في الجري خلف دولار إضافي، أو خلف زيادة شهرتهم واهتمام الناس بهم ولو قليلا، فإن الموت يفاجئنا كلنا بسؤال أكثر إيلاما بكثير، وأكثر أهمية بكثير:
"ماذا ستترك من بعدك؟"
كم سيكون العالم مختلفا، وكم سيكون أفضل، عندما تنتهي حياتك؟
ما الأثر الذي ستتركه لمن بعدك؟
ما العلامة التي ستُخلّفها ورائك؟
يقولون إن رفة جناح فراشة في أفريقيا يمكن أن تسبب إعصارا في فلوريدا، فما الأعاصير التي ستتركها بعدك؟
أشار بيكر إلى إمكانية القول إن هذا السؤال هو السؤال الوحيد الهام حقا في حياتنا كلها إلا أننا نتجنب التفكير فيه لأنه سؤال صعب، ومخيف، ولأننا لا نمتلك أي فكرة عما نفعله في هذه الحياة.
اعلم أنّ السعادة تأتي من الشيء نفسه: الاهتمام بشيء أكبر من نفسك، والإيمان بأنك عنصر مكون من كلٍ أكبر منك بكثير.
هذا هو الإحساس الذي يجعل الناس يذهبون إلى دور العبادة؛ وهو ما يجعلهم يخوضون الحروب؛ وهو ما يجعلهم ينشئون عائلات ويجمعون المدخرات التقاعدية ويبنون الجسور ويخترعون الهواتف المحمولة
أنت عظيم حقا سواء أدركت هذا أو لم تُدرِكُه، وسواء أدركه غيرك أو لم يُدرِكُه.
لستَ عظيما لأنك اخترعت تطبيقا من أجل هاتف آيفون، ولا لأنك اشتريتَ لنفسك زورقا حديثا فاخرا. ليست هذه الأشياء ما يحدد العظمة.
أنت عظيم بالفعل لأنك قادر على مواجهة الموت المحتوم، وقادر على مواصلة اختيار ما توليه اهتمامك وما لا توليه اهتمامك.
ولكنك في النهاية ستموت.
ستموت، لأن الحظ ابتسم لك وعشت.
لقد تقبّلتُ موتي.
هذا الإدراك لهشاشتي، هو ما جعل كل شيء أكثر سهولة، وهو ما جعلني أتخلص من كل إدمان كان عندي، وأحدد هويتي، وأواجه شعوري الزائد بالاستحقاق، وأَقْبَلُ المسؤولية عن مشكلاتي.
هكذا مضيت أكافح مخاوفي وقلقي وأَقْبَلُ فشلي وكل رفض يواجهني.
بدا كل ذلك أسهل فجأة،
حينما فكّرتُ.. في موتي.