إذا كانت المعاناة أمرا لا مهرَبَ منه، وإذا كانت مشكلاتك في الحياة أمرا لا يمكن تفاديه، فإن السؤال الذي يجب أن نطرحه ليس "كيف أوقف المعاناة؟" بل "لماذا أُعاني؟ ولأي غاية؟"، وعلى هذا الجواب تتوقف قدرتَكَ على تقبل ما تعانيه، أو إيجاد الحل الذي يريحك.
إدراك الذات يشبه البصلة، فله طبقات كثيرة؛ وكلما قشّرت هذه الطبقات، واحدة بعد أخرى، كلما كان من المحتمل أن تذرف الدموع في أوقات غير مناسبة.
الطبقة الأولى من بصلة إدراك الذات هي فهم المرء الأولي البسيط لمشاعره وانفعالاته، كأن يقول: "هنا أشعر بالسعادة"، أو "هذا يجعلني حزينًا". ومما يُؤسَفُ له أن هنالك أشخاصا كثيرين يفشلون حتى على هذا المستوى الأولي من إدراك الذات. أعرف هذا لأنني واحد منهم.
والطبقة الثانية من طبقات بَصَلَة إدراك الذات، هي قدرتنا على السؤال عن السبب الذي يجعلنا نحس هذه المشاعر والانفعالات بعينها.
إن أسئلة "لماذا" أسئلة صعبة؛ وقد نحتاج شهور أو سنين حتى نتوصل إلى إجابة دقيقة عليها. يحتاج أكثر الناس إلى الذهاب إلى معالج نفسي حتى يستمعوا إلى هذه الأسئلة للمرة الأولى في
حياتهم، وهي أسئلة مهمة لأنها تلقي ضوءا على ما نعتبره نجاحا أو فشلا.
مثل "لماذا تشعر بالغضب؟ ألأنك لم تنجح في تحقيق هدف ما؟" أو "لماذا تَحس نفسك كسولا متبلدًا من غير حافز يدفعك إلى فعل شيء؟ ألأنك لا ترى نفسك جيدا إلى الحد الكافي؟"
تساعدنا هذه الطبقة من الأسئلة في فهم السبب الأصلي للمشاعر التي تطغى علينا. وعندما نفهم ذلك السبب الأصلي، نصير قادرين على فعل شيء ما من أجل تغييره.
أما المستوى الثالث في بَصَلَة إدراك الذات، هو المستوى الأكثر عمقا، وهو ما يسبب ذرف الدموع أكثر من أي مستوى آخر.
إنه مستوى قيمنا الشخصية: "لماذا أعتبر هذا الشيء نجاحا، أو فشلا؟" أو "كيف أختار أن أقيس نفسي؟" أو "بأي معيار أَحْكُمُ به على نفسي وعلى الناس الذين من حولي؟".
إن القيم كامنة تحت كل ما نحن عليه وتحت كل ما نفعله، وكل شيء بداخلنا مبني على تلك القيم من الأفكار والانفعالات والمشاعر.
يتجاهل معظم مُرشدِي المساعدة الذاتية هذا المستوى الأكثر عمقا لوعي الذات. فهم يأخذون أشخاصا يشعرون بالتعاسة، ويكتفون بمحاولة جعل إحساس الناس تجاه أنفسهم طيبا على المدى القصير، في حين تبقى المشكلات الحقيقية بعيدة المدى، من غير حل على الإطلاق.
قد تتغير أحاسيس الناس وأفكارهم، لكن القيم العميقة والمعايير التي يمكن أن يَجري تقدير هذه القيم بها، تظل هي نفسها.
هذا ليس تقدما حقيقيا. إنه طريقة أخرى فقط للحصول على حلول سريعة سهلة.
وفيما يلي مجموعة من القيمِ الشائعةِ التي تخلق للناس مشكلات سيئة حقا:
1- المتعة
المتعة شيء عظيم، لكنها قيمة شديدة السوء إذا وضعتَ أولويات حياتكَ وِفقا لها، واسأل أي مدمن مخدرات كيف كانت نتيجة جريهِ وراء المتعة التي ينشدها.
فالمتعة أكثر أشكال الرضا سطحية؛ ولعل هذا سبب كونها الأسهل تحققا والأسرع زوالا.
إلا أن المتعة هي ما يجري تسويقه لنا على امتداد أربع وعشرين ساعة، وسبعة أيام في الأسبوع، وهي ما نستخدمه لإلهاء أنفسنا وتخديرها.
2- النجاح المادي
يقيس أناس كثيرون قيمتهم الذاتية اعتمادا على مقدار ما يكسبونه من مال أو على نوع السيارة التي لديهم وغيرها، إلا أن الدراسات تُظهر أن الارتباط بين السعادة والنجاح المادي يقترب سريعا من الصفر بعد أن يتمكن المرء من توفير احتياجاته المادية الأساسية، كالطعام والمسكن والملبس، وهو ما يعني أنّه إذا كنتَ واحدا من أفراد الطبقة الوسطى في بلد من البلاد المتقدمة، فإن عشرة آلاف دولار إضافية في السنة لن يكون لها أثر كبير على أي شيء في حياتك.
3- أن تكون على صواب دائما
إن أدمغتنا آلات منخفضة الكفاءة. فكثيرا ما نضع فرْضيات خاطئة، وننسى تقدير الاحتمالات، ونتذكر الحقائق بشكل خاطئ، وبما أننا بشر، فإننا نكون مخطئين في حالات كثيرة جدا. فإذا كان مقياس النجاح في الحياة عندك هو أن تكون على صواب، فهذا يعني أنك ستجد مشقة كبيرة في تفسير الأسباب الكامنة خلف أخطائك كلها.
من الأنفع لكَ كثيرا أن تفترض أنك جاهل، وأن هنالك الكثير والكثير مما لا تعرفه، فهذا ما يجعلك غير مقيد بأية معتقدات خيالية غير مستندَةٍ إلى معلومات كافية، وهو يشجعك على أن تكون في حالة دائمة من التعلم والتحسن.
4- الحرص على الإيجابية
هنالك أيضا أشخاصٌ يقيسون حياتهم بالقدرة على أن يكونوا إيجابيين في كل شيء، نعم، في كل شيء تقريبا.
هل خسرتَ وظيفتَك؟ عظيم! إنها فرصة جديدة لكي تكتشف ما تحبه حقا فربما تغير نوع عملك.
ولكن الأمر بسيط حقا: تسير أمورنا على غير ما نحب، ويزعجنا الناس، وتَحْدُث لنا حوادث مزعجة أيضا، فتجعلنا هذه الأمور نشعر باستياء شديد.
هذا طبيعي جدًا، ولا بأس فيه!
الانفعالات السلبية هي مكون ضروري من مكونات الصحة الانفعالية، وإنكار هذا الجانب السلبي يطيل أمد المشكلات بدلا من أن يحلها.
الصدق قيمة جيدة لأنه يعكس الحقيقة، ولأنه مفيد للآخرين حتى إذا كان غير سار في بعض الأحيان، والكذب عكس ذلك بالضبط.
فالصدق، والتجديد، والدفاع عن النفس، والدفاع عن الآخرين، واحترام الذات، وحب المعرفة، والإحسان، والتواضع، والإبداع، جميعها قيم جيدة.
أما الكذب، والهيمنة من خلال العنف أو التلاعب، والرضا عن النفس طيلة الوقت، والخوف من الوحدة، والسعي إلى إرضاء الجميع، والثراء من أجل الثراء، فهي قيم سيئة.
سوف تلاحظ أن المرء يستطيع أن يصل بنفسه إلى القيم الصحية الجيدة، أما القيم السيئة فعادةً ما تكون معتمِدة على أحداث خارجية كأن يقول لك الناس أنّك مُحقٌ طوال الوقت، أو كامتلاكك لسيارة فارهة وغيرها.
صحيح أن القيم السيئة يمكن أحيانا أن تمنَحَكَ بهجة أو متعة، إلا أنها واقعة خارج نطاق سيطرتك، وغالبا ما يكون تحقيقها في حاجة إلى استخدام وسائل غير شرعية أو فيها إيذاء أو تلاعب نفسي.
عندما تكون لنا قيم سيئة أو معايير سيئةٍ نضعها لأنفسنا وللآخرين، فإننا نهتم اهتماما زائدا بأشياء لا أهمية لها، أيْ بأشياءٍ تجعل حياتنا أسوأ في واقع الأمر، أما عندما نختار قيما أفضل، فإننا نكون قادرين على توجيه اهتمامنا إلى قيمٍ أهم، تقودنا إلى السعادة والنجاح.