تركز ثقافتنا اليوم تركيزا مفرطا على التوقعات والآمال الإيجابية إلى حد غير واقعي، فكثيرًا ما نقرأ مثل هذه الجمل:
كن أكثر سعادة. كن أكثر صحة. كن الأفضل.
كن أكثر ذكاءً، وأكثر شعبية، وأكثر إنتاجية، كنْ كاملا مدهشا.
لكنك إذا توقفت وفكرت في الأمر مليا، ستجد أن النصائح التقليدية للحياة، وهي كل تلك الأشياء الإيجابية المُصَمَّمَة للمساعدة الذاتية التي نسمعها طيلة الوقت، هي في واقع الأمر نصائح تركز على ما أنت مُفتقر إليه.
فأنت تتعلم أشياء عن أفضل الطرق لكسب المال لأنك تشعر أن المال الذي تجنيه ليس كافيا، وأنت تقف أمام المرآة وتكرر عبارات تؤكد بها لنفسك على أنك شخص جميل لأنك تشعر كما لو أنك لست جميلا حقا، والمفارقة المضحكة في ذلك كله، أن هذا التركيز الشديد على ما هو أفضل، لا يفعل شيئًا غير تذكيرنا مرة بعد مرة بما لسنا عليه، أو بما يجب أن نكونه لولا فَشَلُنا.
يحاول كل شخص، ويحاول كل إعلان تلفزيوني، جعلك مقتنعًا بأن مفتاحك إلى الحياة الجيدة هو وظيفة أحسن من وظيفتك، أو سيارة أكثر فخامة من سيارتك، ويخبرك العالم كله دائما أن الطريق إلى حياة أفضل هو المزيد والمزيد.
لماذا؟
أظن أن الإجابة بسيطة؛ لأن هذا الاهتمام الشديد بالأشياء، هو أمر ملائم تماما لمصالح الشركات، ولكنّه أمر سيء لصحتك العقلية، فهو يجعلك زائد التعلق بما هو سطحي مزيف، ويجعلك تكرس حياتك لملاحقة سراب سعادة أو إحساس بالرضا.
ليست شدة الاهتمام بالحصول على المزيد، مفتاحا لحياة جيدة؛ بل مفتاح ذلك هو الاهتمام المقتصر فقط على ما هو حقيقي وهام فعلا.
حينما ينتابك القلق فيما يتعلق بمواجهة شيء ما في حياتك، ثم يجعلك هذا القلق عاجزا عن فعل أي شيء، تبدأ بعدها في التساؤل عن سبب قلقك هذا، فتُصبح قلِقا بشأن قلقك ذاته.
فيتحول القلق إلى قلق مزدوج.
وهنا دعني أرحب بك، فقد دخلتَ في الحلقة الجحيمية التي تكرر نفسها!
هذه الحلقة الجحيمية تجعل الكثيرين منا واقعِين تحت ضغطٍ نفسي زائد، وتجعلهم متوتري الأعصاب كثيرا، بل وتجعل بعضهم يكرهون أنفسهم.
نحن نتمزق من الداخل لأن هنالك ذلك الشيء الخاطئ الذي يخبرنا أننا يجب أن نكون سعداء طوال الوقت، محبوبِين طوال الوقت، وغير ذلك من الهُراء.
هذا ما يجعل "اللامبالاة" أمرًا حسنًا.
من خلال عدم اكتراثك بأن يكون لديك شعور سيء، فإنك تُبطل الحلقة الجحيمية التي تكرر نفسها، مثل أن تقول لنفسك:
"لدي إحساس سيء. حسنا."
بمسحوق اللامبالاة السحري هذا، تجد أنك توقفت عن كره نفسك بسبب كل هذا السوء الذي تشعر به.
هناك فكرة في "القانون التراجعي" الذي كتبه الفيلسوف آلان وات، تقول بأنّه كلما سعيت إلى أن يكون إحساسك أفضل طيلة الوقت كلما تناقص رضاك، لأن ملاحقة شيء ما، لا تفعل إلا تعزيز حقيقة أنكَ مفتقر إلى ذلك الشيء أصلا.
فكلما اشتدت رغبتكِ في أن تكوني سعيدة ومحبوبة، كلما صرتِ أكثر إحساسا بالوحدة والخوف بغض النظر عن أولئك الموجودين من حولك.
يقول الفيلسوف الوجودي ألبير كامو: "لن تكون سعيدا أبدا، إذا واصلتَ البحث عن السعادة، ولن تعيش حياتَكَ أبدا إذا كنت من الباحثين عن معنى الحياة".
ويمكننا التعبير عن هذا بشكل أكثر بساطة: لا تحاول!
أعرف ما تقولونه لي الآن: إذا توقفت عن المبالاة بهذه الأشياء، فلن أحقق شيئا على الإطلاق.
حَسَنًا، دعنا نعود للقانون التراجعي الذي يقول بأنّ: لعدم المبالغة في الاهتمام مفعولا عكسيا.
إذا كان السعي وراء الأمور الإيجابية قد يؤدي إلى نتائج سلبية، فإن مواجهة الأمور السلبية قد تثمر عن نتائج إيجابية.
فالألم والمشقة اللذان يُعرّض المرء نفسه لهما في صالة التمرينات الرياضية يؤديان إلى صحة أفضل وإلى طاقة أكبر، والفشل في الأعمال هو ما يقود إلى فهم أفضل لما هو ضروري من أجل تحقيق النجاح.
كل ما لهُ قيمة في الحياة يجري كسبه من خلال التغلب على التجارب السلبية التي ترافقه، وأي محاولة للهروب من الأشياء السلبية، لن يكون لها إلا أثر عكسي.
فتجَنُّب المعاناة ليس إلا شكلًا من أشكال المعاناة نفسها.
إنّ الألم خيط من خيوط نسيج الحياة، وليس اقتلاعه من ذلك النسيج أمرا مستحيلا فحسب، بل هو يدمر النسيج نفسه. وعلى النقيض من هذا، إذا كنت قادرا على شيء من اللامبالاة تجاه الألم، فإنك تصير شخصا لا يمكن أن يُقهر.
أنت حينما تهتم بكل شيء وبكل شخص، فسوف تشعر بأن من حقك أن تكون مرتاحًا سعيدا، وبأن كل شيء ينبغي أن يكون مثلما تريده تماما.
لكن هذا الأمر في الواقع هو حالة مرضية، وسوف يأكلكَ حيًا.
سوف ترى في كل نزاع معك ظلمًا واقعا عليك، وسوف ترى في كل تحد فشلا لك، وفي كل إزعاج إهانةٍ شخصية، وفي كل اختلاف خيانة.
سوف تكون محصورا داخل جدران رثائك لنفسِك، ضمن جحيم على قياس رأسك ليس وقوده شيئًا غير تبجحك بنفسك وما تظن أنك تستحقه.
جحيم يتكرر ويعيد تلك الحلقة الجحيمية التي تكرر نفسها في حركة مستمرة لا تصل بك إلى أي مكان.
فن اللامبالاة الذكي لا يعني عدم الاكتراث مطلقا؛ بل هو يعني أن تهتم على النحو الذي يريحك أنت، ولكن بما هو مهم فعلا.
إنه الاستعداد للوقوف أمام الفشل وجها لوجه، والاستعداد لتحدي ذلك الفشل.
ولا يعني هذا أن تقول لكل الأشياء في الحياة: "اذهبوا إلى الجحيم"، بل تقولها لكل ما يُزعجكَ إذا كان لا أهمية له في الحياة حقًا.
من يُتقنون فنّ اللامبالاة يحتفظون باهتمامهم للأشياء التي لها أهمية فعلا، للأصدقاء والعائلة، ولأي شيءٍ يحبونه.
هنالك قول قديم مفادهُ أنك لا تستطيع الهروب من نفسكَ، فأنت موجود حيثما ذهبت.
لا بأس إذن في أن تعرف أنّكَ ستجد أينما ذهبت، خمسمئة كيلوغرام من القاذورات في انتظارك. هذا أمر لا بأس به أبدا.
الفكرة ليست في الابتعاد عن تلك القذارة.
الفكرة هي أن تجد حلا يناسبك للتعامل مع هذه القذارة.
إذن، ما الغاية من هذا الكتاب أصلا؟
يهدف هذا الكتاب إلى أن يجعلكَ تفكر قليلا بمزيد من الوضوح في الأشياء التي تختار أن تعتبرها هامة في الحياة، وفي الأشياء التي تختار أن تعتبرها غير ذات أهمية.
لا ينصب اهتمام هذا الكتاب أبدا على تخليصكَ من مشاكلك أو آلامك.
يريد هذا الكتاب أن يحول ألمكَ إلى أداة في يدك، وأن يحول معاناتك إلى طاقة، وأن يحسّن مشاكلك قليلا، وهذا تقدم حقيقي.
إنه كتاب عن كيف تتعامل بسهولة أكبر مع أسوأ مخاوفك، أو كيف تضحك من دموعك وأنت تذرفها.
هذا الكتاب سيعلمكَ كيف تخسر دون أن تصبح الخسارة مصدر قلق كبير لك.
وسوف يعلمكَ كيف تغمض عينيك، وتثق بأن من الممكن أن تسقط على ظهرك، وتظل بخير رغم ذلك.
سوف يعلمكَ كيف تصل إلى الاهتمام بعدد أقل من الأشياء.
وسوف يعلمكَ... "ألّا تحاول".