*الباب الخامس والعشرون: في بيان الأمور المضادة للصبر والمنافية له والقادحة فيه*

 لما كان الصبر حبس اللسان عن الشكوى إلى غير الله والقلب عن التسخط والجوارح عن اللطم وشق الثياب ونحوها كان ما يضاده واقعا على هذه الجملة، فمنه الشكوى إلى المخلوق، فإذا شكا العبد ربه إلى مخلوق مثله فقد شكا من يرحمه إلى من لا يرحمه. وأما الأنين فهل يقدح في الصبر، فقال البعض: إن الأنين شكوى بلسان الحال ينافي الصبر، والرواية الثانية أنه لا يكره ولا يقدح في الصبر. وما يقدح في الصبر إظهار المصيبة والتحدث بها، وكتمانها رأس الصبر. ويضاد الصبر الهلع وهو الجزع عند ورود المصيبة والمنع عند ورود النعمة قال تعالى: (إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا) [المعارج: 19]. ويعتبر الشح والجبن أردأ صفتين في العبد؛ ولا سيما إذا كان شحه هالعا، أي ملق له في الهلع؛ وجبنه خالعا؛ أي قد خلع قلبه من مكانه، فلا سماحة ولا شجاعة ولا نفع بماله ولا ببدنه.

"قال الجوهري: الهلع أفحش الجزع".

"شر ما في العبد شح هالع، وجبن خالع". 

 

الباب السادس والعشرون: في بيان دخول الصبر والشكر

 أما الصبر فقد أطلقه عليه أعرف الخلق به وأعظمهم تنزيها له بصيغة المبالغة، وفي أسمائه الحسنى الصبور، وهو من أمثلة المبالغة، وأبلغ من الصابر والصبار. وصبره تعالى يفارق صبر المخلوق ولا يماثله من وجوه متعددة، منها: أنه عن قدرة تامة، ومنها: أنه لا يخاف الغوث، والعبد إنما يستعجل لخوف الغوث. ومنها أنه لا يلحقه بصبره ألم ولا حزن ولا نقص بوجه ما. وأما صبره سبحانه فمتعلق بكفر العباد وشركهم ومسبتهم له سبحانه، وأنواع معاصيهم وفجورهم، فلا يزعجه ذلك كله إلى تعجيل العقوبة، بل يصبر على عبده ويمهله ويستصلحه ويرفق به ويحلم عنه، فلا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، فعلم أرباب البصائر بصبره سبحانه كعلمهم برحمته وعفوه وستره، مع أنه صبر مع كمال علم وقدرة وعظمة وعزة.

وأما تسميته سبحانه بالشكور فهو في حديث أبي هريرة، وفي القرآن تسميته شاكرا، قال الله تعالى: (وكان الله شاكرا عليما) [النساء: 147]، ومن شكره سبحانه أنه يجازي عدوه بما يفعله من الخير والمعروف في الدنيا، ويخفف به عنه يوم القيامة فلا يضيع عليه ما يعمله من الإحسان وهو من أبغض خلقه إليه، ومن شكره أنه غفر للمرأة البغي بسقيها كلبا كان قد جهده العطش حتى أكل الثرى، وغفر لآخر بتنحيته غصن شوك عن طريق المسلمين.

ومن شكره سبحانه أنه يخرج العبد من النار بأدنى مثقال ذرة من خير ولا يضيع عليه هذا القدر، فإنه سبحانه غفور شكور، يغفر الكثير من الزلل، ويشكر القليل من العمل ويحب الشاكرين، صبور يحب الصابرين، جواد يحب أهل الجود، ستار يحب أهل الستر، قادر يلوم على العجز، والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف، عفو يحب العفو، وتر يحب الوتر، وكل ما يحبه فهو من آثار أسمائه وصفاته وموجبها، وكل ما يبغضه فهو ما يضادها وينافيها.

"ولما كان سبحانه هو الشكور على الحقيقة كان أحب خلقه إليه من اتصف بصفة الشكر".

"والفرق بين الصبر والحلم أن الصبر ثمرة الحلم وموجبه، فعلى قدر حلم العبد يكون صبره".


عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين
عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين
ابن قيم الجوزية
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00