الفصل التاسع عشر: في أن الصبر نصف الإيمان

والإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر، قال غير واحد من السلف: الصبر نصف الإيمان. وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - «الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر».

وقد ذكر لهذا التنصيف اعتبارات، أحدها: أن الإيمان اسم لمجموع القول والعمل والنية، وهي ترجع إلى شطرين؛ فعل وترك، فالفعل هو العمل بطاعة الله وهو حقيقة الشكر، والترك هو الصبر عن المعصية، والدين كله في هذين الشيئين؛ فعل المأمور وترك المحظور.

الاعتبار الثاني: أن الإيمان مبني على ركنين وهما: يقين وصبر.

الاعتبار الثالث: أن الإيمان قول وعمل، والقول قول القلب واللسان والعمل عمل القلب والجوارح.

الاعتبار الرابع: أن النفس لها قوتان: قوة الإقدام وقوة الإحجام، وهي دائما تتردد بين أحكام هاتين القوتين فتقدم على ما تحبه وتحجم عما تكرهه، والدين كله إقدام وإحجام، إقدام على طاعة وإحجام عن معاصي الله، وكل منهما لا يمكن حصوله إلا بالصبر.

الاعتبار الخامس: أن الدين كله رغبة ورهبة، فالمؤمن هو الراغب الراهب، فرهبته تحمله على الصبر ورغبته تقوده إلى الشكر.

الاعتبار السادس: أن جميع ما يباشره العبد في هذه الدار لا يخرج عما ينفعه في الدنيا والآخرة، أو يضره في الدنيا والآخرة، أو ينفعه في إحدى الدارين ويضره في الأخرى،

الاعتبار السابع: أن العبد لا ينفك عن أمر يفعله، ونهي يتركه.

الاعتبار الثامن: أن العبد فيه داعيان: داع يدعوه إلى الدنيا وشهواتها ولذاتها، وداع يدعوه إلى الله والدار الآخرة وما أعد فيها لأوليائه من النعيم المقيم،

الاعتبار التاسع: أن الدين مداره على أصلين: العزم والثبات.

الاعتبار العاشر: أن الدين مبني على أصلين وهما: الحق والصبر.

 

الباب العشرون: في بيان تنازع الناس في الأفضل من الصبر والشكر

ولله - تبارك وتعالى - على عبده نوعان من الحقوق لا ينفك عنهما: أحدهما: أمره ونهيه اللذان هما محض حقه عليه، والثاني: شكر نعمه التي أنعم بها عليه فهو سبحانه يطالبه بشكر نعمه وبالقيام بأمره، فمشهد الواجب عليه لا يزال يشهده تقصيره وتفريطه وأنه محتاج إلى عفو الله ومغفرته، فإن لم يتداركه بذلك هلك، وكلما كان أفقه في دين الله كان شهوده للواجب عليه أتم وشهوده لتقصيره أعظم، وليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة لله، وأكثر الديانين لا يعبؤون منها إلا بما شاركهم فيه عموم الناس، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه، فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم فضلا عن أن يريدوا فعلها، وفضلا عن أن يفعلوها.

"قال الإمام أحمد حدثنا حجاج حدثنا جرير بن حازم عن وهب قال: بلغني أن نبي الله موسى - عليه السلام - مر برجل يدعو ويتضرع، فقال: يا رب ارحمه فإني قد رحمته، فأوحى الله إليه: لو دعاني حتى تنقطع قواه ما استجبت له حتى ينظر في حقي عليه".

الباب الحادي والعشرون: في الحكم بين الفريقين، والفصل بين الطائفتين

وإذا عرف أن الغنى والفقر والبلاء والعافية فتنة وابتلاء من الله لعبده، يمتحن بها صبره وشكره، علم أن الصبر والشكر مطيتان للإيمان لا يحمل إلا عليهما، ولا بد لكل مؤمن منهما، وكل منهما في موضعه أفضل، فالصبر في مواطن الصبر أفضل، والشكر في مواضع الشكر أفضل، هذا إن صحت مفارقة كل واحد منهما للآخر، وأما إذا كان الصبر جزء مسمى الشكر، والشكر جزء مسمى الصبر، وكل منهما حقيقة مركبة من الأمرين معا كما تقدم بيانه، فالتفضيل بينهما لا يصح إلا إذا جرد أحدهما عن الآخر، وذلك فرض ذهني يقدره الذهن ولا يوجد في الخارج، ولكن يصح على وجه، وهو أن العبد قد يغلب صبره على شكره الذي هو قدر زائد على مجرد الصبر من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فلا يبقى فيه اتساع لغير صبر النفس على ما هو فيه لقوة الوارد وضيق المحل، فتنصرف قواه كلها إلى كف النفس وحبسها لله، وقد يغلب شكره بالأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة على قوة كفه لنفسه وحبسها لله، فتكون قوة إرادته وعمله أقوى من قوة امتناعه وحبس نفسه.

"فللنفس قوتان: قوة الصبر والكف وإمساك النفس، وقوة البذل وفعل الخير والإقدام على فعل ما تكمل به، وكمالها باجتماع هاتين القوتين فيها".


عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين
عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين
ابن قيم الجوزية
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00