فإنه بين أمر يجب عليه امتثاله وتنفيذه، ونهي يجب عليه اجتنابه وتركه، وقدر يجري عليه اتفاقا، ونعمة يجب عليه شكر المنعم عليها، وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه فالصبر لازم له إلى الممات، وكل ما يلقى العبد في هذه الدار لا يخلو من نوعين: أحدهما يوافق هواه ومراده، والآخر يخالفه، وهو محتاج إلى الصبر في كل منهما.
أما النوع الموافق لغرضه مثل الصحة والسلامة والجاه والمال وأنواع الملاذ المباحة؛ فهو أحوج شيء إلى الصبر فيها من وجوه: أحدها : ألا يركن إليها ولا يغتر بها، ولا تحمله على البطر والأشر والفرح المذموم الذي لا يحب الله أهله، الثاني: ألا ينهمك في نيلها ويبالغ في استقصائها؛ فإنها تنقلب إلى أضدادها، فمن بالغ في الأكل والشرب والجماع انقلب ذلك إلى ضده، وحرم الأكل والشرب والجماع، الثالث: أن يصبر على أداء حق الله فيها ولا يضيعه فيسلبها، الرابع أن يصبر عن صرفها في الحرام، فلا يمكن نفسه من كل ما تريده منها فإنها توقعه في الحرام، فإن احترز كل الاحتراز أوقعته في المكروه، ولا يصبر على السراء إلا الصديقون. وبينما كان الصبر على السراء شديدا لأنه مقرون بالقدرة، والجائع عند غيبة الطعام أقدر منه على الصبر عند حضوره، وكذلك الشبق عند غيبة المرأة أصبر منه عند حضورها.
وأما النوع الثاني المخالف للهوى فلا يخلو إما أن يرتبط باختيار العبد كالطاعات والمعاصي، أو لا يرتبط أوله باختياره كالمصائب، أو يرتبط أوله باختياره ولكن لا اختيار له في إزالته بعد الدخول فيه، فها هنا ثلاثة أقسام أحدها: ما يرتبط باختياره وهو جميع أفعاله التي توصف بكونها طاعة أو معصية، الحالة الثانية: الصبر حال العمل فيلازم العبد الصبر عن دواعي التقصير فيه والتفريط، الحالة الثالثة: الصبر بعد الفراغ من العمل وذلك من وجوه: أحدها: أن يصبر نفسه عن الإتيان بما يبطل عمله، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}، [البقرة : 264]، فليس الشأن الإتيان بالطاعة، إنما الشأن في حفظها مما يبطلها. الثاني: أن يصبر عن رؤيتها والعجب بها والتكبر والتعظم بها، فإن هذا أضر عليه من كثير من المعاصي الظاهرة. الثالث: أن يصبر عن نقلها من ديوان السر إلى ديوان العلانية فإن العبد يعمل العمل سرا بينه وبين الله سبحانه فيكتب في ديوان السر، فإن تحدث به نقل إلى ديوان العلانية، فلا يظن أن بساط الصبر انطوى بالفراغ من العمل.
وأما الصبر عن المعاصي فأمره ظاهر، وأعظم ما يعين عليه قطع المألوفات ومفارقة الأعوان عليها في المجالسة والمحادثة وقطع العوائد، فإن للعادة طبيعة خاصة، فإذا انضافت الشهوة إلى العادة تظاهر جندان من جند الشيطان فلا يقوى باعث الدين على قهرهما. القسم الثاني: ما لا يدخل تحت الاختيار، وليس للعبد حيلة في دفعه كالمصائب التي لا صنع للعبد فيها، كموت من يعز عليه، وسرقة ماله، ومرضه ونحو ذلك، وهذا القسم نوعان: أحدهما ما لا صنع للعبد الآدمي فيه، والثاني ما أصابه من جهة آدمي مثله كالسب والضرب وغيرهما.
فالنوع الأول للعبد فيه أربع مقامات: أحدها مقام العجز، وهو مقام الجزع والشكوى والسخط، وهذا ما لا يفعله إلا أقل الناس عقلا ودينا ومروءة، وهو أعظم المصيبتين. المقام الثاني: مقام الصبر إما لله وإما للمروءة الإنسانية. المقام الثالث: مقام الرضا، وهو أعلى من مقام الصبر، وفي وجوبه نزاع، والصبر متفق على وجوبه. المقام الرابع : مقام الشكر، وهو أعلى من مقام الرضا، فإنه يشهد البلية نعمة فيشكر المبتلي عليها.
وأما النوع الثاني: وهو ما أصابه من قبل الناس فله فيه هذه المقامات، ويضاف إليها أربعة أخر؛ أحدها: مقام العفو والصفح، والثاني: مقام سلامة القلب من إرادة التشفي والانتقام، وفراغه من ألم مطالعة الجناية كل وقت وضيقه بها، الثالث: مقام شهود القدر، وأنه وإن كان ظالما بإيصال هذا الأذى إليك فالذي قدره عليك وأجراه على يد هذا الظالم ليس بظالم، وأذى الناس مثل الحر والبرد لا حيلة في دفعه، فالمتسخط من أذى الحر والبرد غير حازم، والكل جار بالقدر وإن اختلفت طرقه وأسبابه. المقام الرابع: مقام الإحسان إلى المسيء ومقابلة إساءته بإحسانك، وفي هذا المقام من الفوائد والمصالح ما لا يعلمه إلا الله، فإن فات العبد هذا المقام العالي فلا يرضى لنفسه بأخس المقامات وأسفلها.
القسم الثالث: ما يكون وروده باختياره، فإذا تمكن لم يكن له اختيار ولا حيلة في دفعه، وهذا كالعشق أوله اختيار وآخره اضطرار، وكالتعرض لأسباب الأمراض والآلام التي لا حيلة في دفعها بعد مباشرة أسبابها، كما لا حيلة في دفع السكر بعد تناول المسكر، فهذا كان فرضه الصبر عنه في أوله، فلما فاته بقي فرضه الصبر عليه في آخره، وألا يطيع داعي هواه ونفسه، والشيطان.
"فالصبر والتقوى دواء كل داء من أدواء الدين، ولا يستغني أحدهما عن صاحبه".
مشقة الصبر بحسب قوة الداعي إلى الفعل وسهولته على العبد، فإذا اجتمع في الفعل هذان الأمران كان الصبر عنه أشق شيئ على الصابر، وإن فقدا معا سهل الصبر عنه، وإن وجد أحدهما وفقد الآخر سهل الصبر من وجه وصعب من وجه، فمن لا داعي له إلى القتل والسرقة وشرب المسكر وأنواع الفواحش، ولا هو سهل عليه؛ فصبره عنه من أيسر شيء وأسهله، ومن اشتد داعيه إلى ذلك وسهل عليه فعله فصبره عنه أشق شيئ عليه، ولهذا كان صبر السلطان عن الظلم وصبر الشاب عن الفاحشة وصبر الغني عن تناول اللذات والشهوات عند الله بمكانة عالية.
ولهذا كان الصبر عن معاصي اللسان والفرج من أصعب أنواع الصبر لشدة الداعي إليهما وسهولتهما، فإن معاصي اللسان فاكهة الإنسان، كالنميمة والغيبة والكذب والمراء والثناء على النفس تعريضا وتصريحا، وحكاية كلام الناس والطعن على من يبغضه، ومدح من يحبه ونحو ذلك، فتتفق قوة الداعي وتيسر حركة اللسان فيضعف الصبر. والمقصود أن اختلاف شدة الصبر في أنواع المعاصي وآحادها يكون باختلاف داعيه إلى تلك المعصية في قوتها وضعفها.
"عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: «الصبر ثلاثة : فصبر على المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمئة درجة، ومن صبر على الطاعة حتى يؤديها كما أمر الله كتب الله له ستمئة درجة، ومن صبر عن المعصية خوفا من الله ورجاء ما عنده كتب الله له تسعمئة درجة»".
"وقال ميمون ابن مهران «الصبر صبران: فالصبر على المصيبة حسن، وأفضل منه الصبر عن المعصية»"
"وقال الفضيل في قوله تعالى: {سلام عليكم بما صبرتم} [ الرعد: 24]، صبروا على ما أمروا به وصبروا عما نهوا عنه، وكأنه جعل الصبر على المصيبة داخلا في قسم المأمور به".
الأنواع التي ذكر فيها الصبر في القرآن أحدها: الأمر به كقوله: {واصبر وما صبرك إلا بالله} [النحل: 127]،
الثاني: النهي عما يضاده كقوله تعالى: {ولا تستعجل لهم} [الأحقاف: ٣٥]،
الثالث: تعليق الفلاح به كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}، [سورة آل عمران: 0 2]،
الرابع: الإخبار عن مضاعفة أجر الصابرين على غيره،
الخامس: تعليق الإمامة في الدين به وباليقين،
السادس: ظفرهم بمعية الله - سبحانه وتعالى - لهم.
السابع: أنه جمع للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم وهي: الصلاة منه عليهم، ورحمته لهم، وهدايته إياهم،
الثامن: أنه سبحانه جعل الصبر عونا وعدة. وأمر بالاستعانة به،
التاسع: أنه سبحانه علق النصر بالصبر والتقوى،
العاشر: أنه سبحانه جعل الصبر والتقوى جنة عظيمة.
الحادي عشر: أنه سبحانه أخبر أن ملائكته تسلم عليهم في الجنة بصبرهم،
الثاني عشر: أنه سبحانه أباح لهم أن يعاقبوا على ما عوقبوا به، ثم أقسم قسما مؤكدا غاية التأكيد أن صبرهم خير لهم،
الثالث عشر: أنه سبحانه رتب المغفرة والأجر الكبير على الصبر والعمل الصالح،
الرابع عشر: أنه سبحانه جعل الصبر على المصائب من عزم الأمور.
الخامس عشر: أنه سبحانه وعد المؤمنين بالنصر والظفر،
السادس عشر: أنه سبحانه علق محبته بالصبر وجعلها لأهله،
السابع عشر: أنه سبحانه قال عن خصال الخير: إنه لا يلقاها إلا الصابرون،
الثامن عشر: أنه سبحانه أخبر أنه إنما ينتفع بآياته ويتعظ بها الصبار الشكور،
التاسع عشر: أنه أثنى على عبده أيوب بأحسن الثناء على صبره،
العشرون: أنه سبحانه حكم بالخسران حكما عاما على كل من لم يؤمن ولم يكن من أهل الحق والصبر.
الحادي والعشرون : أنه سبحانه خص أهل الميمنة بأنهم أهل الصبر والمرحمة،
الثاني والعشرون: أنه سبحانه قرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان كلها.
"قال الإمام أحمد رحمه الله: ذكر الله - سبحانه وتعالى - الصبر في القرآن في تسعين موضعا".