الصبر باعتبار متعلقه ثلاثة أقسام: صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها، وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها، وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها، وهذه الأنواع الثلاثة هي التي قال فيها الشيخ عبد القادر في فتوح الغيب: «لا بد للعبد من أمر يفعله، ونهي يجتنبه، وقدر يصبر عليه».
وهذا الكلام يتعلق بطرفين: طرف من جهة الرب تعالى، وطرف من جهة العبد، فأما الذي من جهة الرب فهو أن الله تعالى له على عبده حكمان: حكم شرعي ديني، وحكم كوني قدري، فالشرعي متعلق بأمره، والكوني متعلق بخلقه، وهو سبحانه له الخلق والأمر. وحكمه الديني الطلبي نوعان بحسب المطلوب: فإن المطلوب إن كان محبوبا له فالمطلوب فعله إما واجبا وإما مستحبا، ولا يتم ذلك إلا بالصبر، وإن كان مبغوضا له فالمطلوب تركه إما تحريما وإما كراهة. وذلك أيضا موقوف على الصبر، فهذا حكمه الديني الشرعي، وأما حكمه الكوني فهو ما يقضيه ويقدره على العبد من المصائب التي لا صنع له فيها، ففرضه الصبر عليها، وفي وجوب الرضا بها قولان للعلماء، وهما وجهان في مذهب أحمد أصحهما أنه مستحب، فمرجع الدين كله إلى هذه القواعد الثلاث وهي: فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور. وأما الذي من جهة العبد فإنه لا ينفك عن هذه الثلاث ما دام مكلفا ولا تسقط عنه هذه الثلاثة حتى يسقط عنه التكليف، فالصبر تعلق بالمأمور والمحظور والمقدور بالخلق والأمر.
وهو ينقسم بهذا الاعتبار إلى واجب ومندوب ومحظور ومكروه ومباح.
فالصبر الواجب ثلاثة أنواع؛ أحدها: الصبر عن المحرمات، والثاني: الصبر على أداء الواجبات، والثالث: الصبر على المصائب التي لا صنع للعبد فيها كالأمراض والفقر وغيرها.
وأما الصبر المندوب فهو الصبر عن المكروهات، والصبر على المستحبات، والصبر على مقابلة الجاني بمثل فعله. وأما المحظور فأنواع : أحدها الصبر عن الطعام والشراب حتى يموت، وكذلك الصبر عن الميتة والدم ولحم الخنزير عند المخمصة حرام إذا خاف بتركه الموت. ومن الصبر المحظور صبر الإنسان على ما يقصد هلاكه من سبع أو حيات أو حريق أو ماء أو كافر يريد قتله، بخلاف استسلامه وصبره في الفتنة وقتال المسلمين، فإنه مباح له بل يستحب.
وأما الصبر المكروه فله أمثلة: أحدها: أن يصبر عن الطعام والشراب واللبس وجماع أهله حتى يتضرر بذلك بدنه، والثاني : صبره عن جماع زوجته إذا احتاجت إلى ذلك ولم يتضرر به، والثالث: صبره على المكروه، والرابع: صبره عن فعل المستحب. وأما الصبر المباح: فهو الصبر عن كل فعل مستوي الطرفين خير بين فعله وتركه والصبر عليه. وبالجملة فالصبر على الواجب واجب، وعن الواجب حرام، والصبر عن الحرام واجب وعليه حرام. والصبر على المستحب مستحب وعنه مكروه. والصبر عن المكروه مستحب وعليه مكروه. والصبر عن المباح مباح.
"قال طاووس وبعده الإمام أحمد: «من اضطر إلى أكل الميتة والدم فلم يأكل فمات دخل النار»".
الصبر كما تقدم نوعان: اختياري واضطراري، والاختياري أكمل من الاضطراري، فإن الاضطراري يشترك فيه الناس ويتأتى ممن لا يتأتى منه الصبر الاختياري، ولذلك كان صبر يوسف الصديق عن مطاوعة امرأة العزيز وصبره على ما ناله في ذلك من الحبس والمكروه أعظم من صبره على ما ناله من إخوته لما ألقوه في الجب وفرقوا بينه وبين أبيه وباعوه بيع العبد، ومن الصبر الثاني أنشأ الله سبحانه له ما أنشأه من العز والرفعة والملك والتمكين في الأرض.
والمقصود أنه سبحانه أمر رسوله أن يصبر صبر أولي العزم الذين صبروا لحكمه اختيارا وهذا أكمل الصبر، ولهذا دارت قصة الشفاعة يوم القيامة على هؤلاء حتى ردوها إلى أفضلهم وخيرهم وأصبرهم لحكم الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فإن قيل: أي أنواع الصبر الثلاثة أكمل؛ الصبر على المأمور، أم الصبر عن المحظور، أم الصبر على المقدور؟
قيل: الصبر المتعلق بالتكليف، وهو الأمر والنهي أفضل من الصبر على مجرد القدر، فإن هذا الصبر يأتي به البر والفاجر، والمؤمن والكافر، فلا بد لكل أحد من الصبر على القدر اختيارا أو اضطرارا. وأما الصبر على الأوامر والنواهي فصبر أتباع الرسل، وأعظمهم أتباعا أصبرهم في ذلك، وكل صبر في محله وموضعه أفضل: فالصبر عن الحرام في محله أفضل، وعلى الطاعة في محلها أفضل.
"قال الإمام أحمد: «الفتوة ترك ما تهوى لما تخشى»".