الباب الرابع: في الفرق بين الصبر والتصبر والاصطبار والمصابرة

الفرق بين هذه الأسماء بحسب حال العبد في نفسه وحاله مع غيره، فإن حبس نفسه ومنعها عن إجابة داعي ما لا يحسن إن كان خلقا له وملكة سمي صبرا، وإن كان بتكلف وتمرن وتجرع لمرارته سمي تصبرا، وأما الاصطبار فهو أبلغ من التصبر، فإنه افتعال للصبر بمنزلة الاكتساب، فالتصبر مبدأ الاصطبار، كما أن التكسب مقدمة الاكتساب، فلا يزال التصبر يتكرر حتى يصير اصطبارا، وأما المصابرة فهي مقاومة الخصم في ميدان الصبر، فإنها مفاعلة تستدعي وقوعها بين اثنين كالمشاتمة والمضاربة.

"فالمرابطة كما أنها لزوم الثغر الذي يخاف هجوم العدو منه في الظاهر فهي لزوم ثغر القلب لئلا يدخل منه الهوى والشيطان فيزيله عن ملكته". 

 

 الباب الخامس: في انقسامه باعتبار محله

الصبر ضربان: ضرب بدني وضرب نفساني، وكل منهما نوعان: اختياري واضطراري، فهذه أربعة أقسام: الأول: البدني الاختياري، كتعاطي الأعمال الشاقة على البدن اختيارا وإرادة. الثاني: البدني الاضطراري، كالصبر على ألم الضرب والمرض والجراحات والبرد والحر وغير ذلك. الثالث: النفساني الاختياري، كصبر النفس عن فعل ما لا يحسن فعله شرعا ولا عقلا. الرابع: النفساني الاضطراري، كصبر النفس عن محبوبها قهرا إذا حيل بينها وبينه.

فإذا عرفت هذه الأقسام فهي مختصة بنوع الإنسان دون البهائم، ومشاركة البهائم في نوعين منها وهما صبر البدن والنفس الاضطراريين، وقد يكون بعضها أقوى صبرا من الإنسان، وإنما يتميز الإنسان عنها بالنوعين الاختياريين، وكثير من الناس تكون قوة صبره في النوع الذي شارك فيه البهائم لا في النوع الذي يخص الإنسان، فيعد صابرا وليس من الصابرين.

فإن قيل: هل يشارك الجن الإنس في هذا الصبر؟ قيل: نعم، فإن قيل: فهل تشاركنا الملائكة في شيء من أقسام الصبر؟ قيل: الملائكة لم يبتلوا بهوى يحارب عقولهم ومعارفهم، بل العبادة والطاعة لهم كالنفس لنا، فلا يتصور في حقهم الصبر الذي حقيقته ثبات باعث الدين والعقل في مقابلة باعث الشهوة والهوى، وإن كان لهم صبر يليق بهم وهو ثباتهم وإقامتهم على ما خلقوا له من غير منازعة هوى أو شهوة أو طبع، فالإنسان منا إذا غلب صبره باعث الهوى والشهوة التحق بالملائكة، وإن غلب باعث الهوى والشهوة صبره التحق بالشياطين، وإن غلب باعث طبعه من الأكل والشرب والجماع صبره التحق بالبهائم.

قال قتادة: خلق الله سبحانه الملائكة عقولا بلا شهوات، وخلق البهائم شهوات بلا عقول، وخلق الإنسان وجعل له عقلا وشهوة، فمن غلب عقله شهوته فهو مع الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو كالبهائم.

 

الباب السادس: في بيان أقسامه بحسب اختلاف قوته وضعفه ومقاومته لجيش الهوى وعجزه عنه

وباعث الدين بالإضافة إلى باعث الهوى له ثلاث أحوال: إحداها: أن يكون القهر والغلبة لداعي الدين فيرد جيش الهوى هاربا، وهذا إنما يصل إليه بدوام الصبر، والواصلون إلى هذه الرتبة هم المنصورون في الدنيا والآخرة، الحالة الثانية: أن تكون القوة والغلبة لداعي الهوى فيسقط منازعه باعث الدين بالكلية، فيستسلم البائس للشيطان وجنده، فيقودوه حيث شاءوا، وله معهم حالتان: إحداهما: أن يكون من جندهم وأتباعهم، وهذه حال العاجز الضعيف. والثانية: أن يصيره الشيطان من جنده، وهذه حال الفاجر القوي المتسلط والمبتدع الداعية لمتبوع. بينما الحالة الثالثة: أن تكون الحرب سجالا ودولا بين الجنديين، فتارة له وتارة عليه، وتكثر نوبات الانتصار وتقل، وهذه حال أكثر المؤمنين الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.

وتكون الحال يوم القيامة موازنة لهذه الأحوال الثلاث سواء بسواء، فمن الناس من يدخل الجنة ولا يدخل النار، ومنهم من يدخل النار ولا يدخل الجنة، ومنهم من يدخل النار ثم يدخل الجنة، وهذه الأحوال الثلاثة هي أحوال الناس في الصحة والمرض، فمن الناس من تقاوم قوته داءه فتقهره، ويكون السلطان للقوة، ومنهم من يقهر داؤه قوته ويكون السلطان للداء، ومنهم من تكون الحرب بين دائه وقوته نوبة فهو متردد بين الصحة والمرض.

قال بعض الصحابة: إن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره في السفر.

وذكر ابن أبي الدنيا عن بعض السلف: إن شيطانا لقي شيطانا فقال: ما لي أراك شحيبا؟ فقال: إني مع رجل إن أكل ذكر اسم الله فلا آكل معه، وإن شرب ذكر اسم الله فلا أشرب معه، وإن دخل بيته ذكر اسم الله فأبيت خارج الدار، فقال الآخر : لكنني مع رجل إن أكل لم يسم الله فآكل أنا وهو معا، وإن شرب لم يسم الله فأشرب معه، وإن دخل داره لم يسم الله فأدخل معه، وإن جامع امرأته لم يسم الله فأجامعها معه".


عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين
عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين
ابن قيم الجوزية
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00