هذه مسألة كثر فيها النزاع بين الأغنياء والفقراء، واحتجت كل طائفة على الأخرى بما لم يمكنها دفعه من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار، ولذلك يظهر للمتأمل تكافؤ الطائفتين، فإن كلا منهما أدلى بحجج لا تدفع، والحق لا يعارض بعضه بعضا، بل يجب اتباع موجب الدليل أين كان، وقد أكثر الناس في المسألة من الجانبين وصنفوا فيها من الطرفين، وتكلم الفقهاء والفقراء والأغنياء والصوفية وأهل الحديث والتفسير؛ لشمول معناها وحقيقتها للناس كلهم، وحكوا عن الإمام أحمد فيها روايتين ذكرهما أبو الحسين في كتاب التمام فقال: مسألة الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر في أصح الروايتين، وفيه رواية ثانية الغني الشاكر أفضل، وبها قالت جماعة منهم ابن قتيبة، ووجه الأولى - واختارها أبو إسحاق بن شاقلا والوالد السعيد - قوله تعالى - : (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا) [الفرقان: 75].
قال محمد بن علي بن الحسين: الغرفة: الجنة. والحقيقة أن لا حجة له في واحدة من الحجتين، أما الآية فالصبر فيها يتناول صبر الشاكر على طاعته وصبره عن معصيته، وصبر المبتلى بالفقر وغيره على بلائه، ولو كان المراد بها الصبر على الفقر وحده لم يدل رجحانه على الشكر، فإن القرآن كما دل على جزاء الصابرين دل على جزاء الشاكرين أيضا، كما قال تعالى: (وسنجزي الشاكرين) [سورة آل عمران: 145]، (وسيجزي الله الشاكرين) [سورة آل عمران: 144]، بل قد أخبر أن رضاه في الشكر، ورضاه أكبر من جزائه بالجنات وما فيها، وإذا جزى الله الصابرين الغرفة بما صبروا لم يدل ذلك على أنه لا يجزى الشاكرون الغرفة بما شكروا.
"قال أبو الحسين: وروى أبو برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فقراء المسلمين ليدخلون الجنة قبل أغنيائهم بمقدار أربعين خريفا حتى يتمنى أغنياء المسلمين يوم القيامة أنهم كانوا فقراء في الدنيا»".
قالت الفقراء: لم يذكر الله سبحانه الغنى والمال في القرآن إلا على أحد وجوه: الأول على وجه الذم، كقوله تعالى: (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) [العلق: 6]، والوجه الثاني: أن يذكره على وجه الابتلاء والامتحان، كما قال تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) [التغابن: 15].
قال الإمام أحمد: حدثنا عبادة بن مسلم حدثني يونس بن خباب عن أبي البحتري الطائي عن أبي كبشة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : «ثلاث أقسم عليهن، وأحدثكم حديثا فاحفظوه، فأما الثلاث التي أقسم عليهن: فإنه ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله - عز وجل - عزا ، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله له باب فقر، وأما الذي أحدثكم حديثا فاحفظوه فإنه قال: إنما الدنيا لأربعة أنفار: عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم فيه لله حقا، فهذا بأفضل المنازل عند الله، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو يقول: لو كان لي مال عملت فيه بعمل فلان، قال فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يتخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل عند الله، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو كان لي مال لفعلت بفعل فلان، قال فهو بنيته ووزرهما فيه سواء". فلما فضل الغني بفعله ألحق الفقير الصادق بنيته، والغني هناك إنما نقص بتخلفه عن العمل، والفقير إنما نقص بسوء نيته، فلم ينفع الغني غناه مع التخلف، ولا ضر الفقير فقره مع حسن النية، ولا نفعه فقره مع سوء نيته. قالوا: ففي هذا بيان كاف شاف في المسألة، حاكم بين الفريقين.
ولأن الرغبة في الدنيا أصل المعاصي الظاهرة فهي أصل معاصي القلب من التسخط والحسد والكبر والفخر والخيلاء والتكاثر، وامتلاء القلب بما ينافي الشكر، ورأس الشكر تفريغ القلب منها، وامتداد المال كامتداد العمر والجاه، فخيركم في الدنيا من طال عمره وحسن عمله، فهكذا من امتد ماله وكثر به خيره، فنعم المرء وماله وجاهه، إما أن يرفعه درجات وإما أن يضعه درجات.
وسر المسألة أن طريق الفقر والتقلل طريق سلامة مع الصبر، وأن طريق الغنى والسعة في الغالب طريق عطب، فإن اتقى الله في ماله ووصل به رحمه وأخرج منه حق الله؛ وليس مقصورا على الزكاة، بل من حقه إشباع الجائع، وكسوة العاري وإغاثة الملهوف وإعانة المحتاج والمضطر؛ فطريقه طريق غنيمة وهي فوق السلامة، فمثل صاحب الفقر كمثل مريض قد حبس بمرضه عن أغراضه فهو يثاب على حسن صبره على حبسه، وأما الغني فخطره عظيم في جمعه وكسبه وصرفه، فإذا سلم كسبه وحسن أخذه من وجهه وصرفه في حقه كان أنفع له، فالفقير كالمتعبد المنقطع عن الناس - والغني المنفق في وجوه الخير كالمعين والمعلم والمجاهد، ولهذا جعله النبي قرين الذي آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، فهو أحد المحسودين اللذين لا ثالث لهما، والجهلة يغبطون المنقطع المتخلي المقصور النفع على نفسه ويجعلونه أولى بالحسد من المنفق والعالم المعلم.
فإن قيل أيهما أفضل: من يختار الغنى والتصدق والإنفاق في وجوه البر؟
أم من يختار الفقر والتقلل ليبعد عن الفتنة ويسلم من الآفة ويرفه قلبه على الاستعداد للآخرة فلا يشغله بالدنيا؟
أم من يختار لا هذا ولا ذاك، بل يختار ما اختاره الله له فلا يعين باختياره واحدا من الأمرين؟
قيل: هذا موضع اختلف فيه حال السلف الصالح، فمنهم من اختار المال للجهاد به والإنفاق وصرفه في وجوه البر كعبد الرحمن بن عوف وغيره من مياسير الصحابة، وكان قيس بن سعد يقول: اللهم إني من عبادك الذين لا يصلحهم إلا الغنى، ومنهم من اختار الفقر والتقلل، والفرقة الثالثة لم تختر شيئا بل كان اختيارها ما اختاره الله لها."وقال يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة يرفعه: «كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس»"