البابُ الثامنُ

ذكرُ تَلبِيسِ إبليس على العُبّادِ في العباداتِ

أولُ تلبيسِ إبليسَ على العِبادِ هو إيثارُهمُ التعبّدُ على العلمِ، رَغمَ أنّ العلمَ أفضلُ من النوافلِ، فأراهم أنّ المقصودَ منَ العلمِ العملَ، وما فَهموا من العملِ إلا عملَ الجوارحِ، وما علموا أن العملَ عملُ القلبِ، وعملُ القلبِ أفضلُ مِن عملِ الجوارحِ.

ذكرُ تَلبِيسِه عليهِم فِي الوُضوءِ:

منهم مَن يُلبّسُ عليهِ فِي النيّةِ، وهو من الجهلِ بالشرع لأن النيّةَ بالقلبِ لا باللفظِ، ومنهم من يُلبّسُ عليهِ بالنظرِ في الماءِ المُتَوضَأِ به، فيقولُ: مِن أين لك أنه طاهرٌ؟، ويَكفيهِ العلمُ بأنّ أصلَ الماءِ الطهارةُ فلا يُتركُ الأصلُ بالاحتمالِ. ومنهم من يُلبّسُ عليه بكثرةِ استعمالِ الماءِ، وربما أطال الوضوءَ ففات وقتُ الصلاةِ أو فات أوَّلُه وهو الفضيلةُ أو فاتته الجماعةُ.

ذكرُ تَلبِيسِه عليهِم فِي الأذانِ:

ومِن ذلك التلحينُ فِي الأذانِ، وَقَدْ كرِهه مالكُ بنُ أنسٍ وغيرُه منَ العلماءِ كراهيةً شديدةً، لأنه يُخرجُه عنْ موضعِ التعظيمِ إِلى مُشابهةِ الغناءِ، ومنهُ أنهم يَخلطون أذانَ الفجرِ بالتذكيرِ والتسبيحِ والمواعظِ، ويجعلون الأذانَ وسطًا فيَختَلطُ.

ذكر تَلبِيسِه عليهِم فِي الصلاةِ:

وذلك في الثيابِ التي يُستترُ بِهَا، فترى أحدَهم يغسلُ الثوبَ الطاهرَ مرارًا وهي مُبالغةٌ خارجةٌ عن حدِّ الشرعِ، ومِن ذلك تلبيسُه عليهم فِي نيّةِ الصلاةِ، وفي الخشوعِ فيها، وفي الإكثارِ من صلواتِ النوافلِ على حسابِ صلاةِ الفريضةِ، وفي غيرِ ذلك كثيرٌ.

ذكرُ تَلبِيسِه عليهِم فِي قراءةِ القرآنِ:

وقد لَبَّس على قومٍ بكثرةِ التلاوةِ، فهم يهزون هزًا من غيرِ ترتيلٍ، وهذه حالةٌ ليست بمحمودةٍ. وقد لَبَّس إبليسُ على قومٍ من القُرّاءِ، فهم يقرؤون القرآنَ فِي منارةِ المسجدِ بالليلِ بالأصواتِ المجتمعةِ المرتفعةِ، الجزءَ والجزأين، فيَجمعون بين أذى الناسِ في منعِهم منَ النومِ وبين التعرُّضِ للرياءِ.

ذكرُ تَلبِيسِه عليهِم فِي الصيامِ:

وقدْ لبَّس على أقوامٍ فحسّنَ لهم الصومَ الدائمَ، وذلك جائزٌ إذا أفطر الإنسانُ الأيامَ المُحرَّمَ صومُها، إلا أنّ الآفةَ فيه من وجهينِ؛ أحدُهما أنه ربما عاد بضَعفِ القوى فأعجزَ الإنسانَ عَن الكسبِ لعائلتِه ومنعَه من إعفافِ زوجتِه، والآخرُ: هو أنّه يُفوّتُ الفضيلةَ، فأفضلُ الصيامِ هو صيامُ داوُدَ عليه السلامُ، كان يصومُ يومًا ويُفطرُ يومًا.

ومن الناسِ مَن يرى غيرَه بعينِ الاحتقارِ لكونِه صائمًا وهُم مُفطرون، ومنهم مَن يُلازمُ الصومَ ولا يُبالي على ماذا أفطر، ولا يتحاشى فِي صومِه عَنْ غِيبةٍ ولا عَنْ نظرةٍ، وَقَدْ خَيّل لَهُ إبليسُ أنّ صَومِك يدفعُ إثمَك، وكلُّ هَذَا من التلبيسِ.


تَلبِيسُ إبلِيس
تَلبِيسُ إبلِيس
ابن قيم الجوزية
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00