ذكرُ تلبيسِ الشيطانِ على السُفسطائيّةِ: وهم على ثلاثةِ مذاهبَ:
الأولُ: يُنكرُ حقائقَ الأشياءِ ويزعُمُ أنها أوهامٌ وهُمُ العِناديّةُ.
والثاني: يُنكرُ العلمَ بثبوتِ الشيءِ ولا بعدمِ ثبوتِه، ولا ينكرُ نفسَ الحقائقِ ولا يُثبتُها، ويزعُمُ أنه شاكٌّ، وشاكٌّ في أنه شاكٌّ وهمُ اللاأدريّة.
والثالثُ: يزعُمُ أنّ الحقائقَ تابعةٌ للاعتقاداتِ، مع كونِه ينكرُ ثبوتَها وهمُ العنديّةُ.
فلا تصحُّ مجادلتُهم والردُّ عليهِم، لأنّهم لم يُثبتوا حقيقةً، ولا أقرُّوا بمشاهدةٍ، فكيف تُخاطبُ مَن لا يدري أموجودٌ هو أم معدومٌ، أو مَن يرى أنّ المُخاطبةَ بمنزلةِ السكوتِ وأنّ الصحيحَ بمنزلةِ الفاسدِ؟
ذِكرُ تلبيسِ الشيطانِ عَلَى فِرَقِ الفلاسفةِ
ذكرُ تلبيسِه على الدهريّةِ:
أوْهَم إبليسُ خلقًا كثيرًا أنّه لا إلهَ، ولا صانعَ، وأنّ الأشياءَ كانت بلا مُكوِّنٍ، وهؤلاءِ لمّا لم يُدرِكوا الصانعَ بالحسِّ ولم يستعملوا فِي معرفتِه العقلَ جحدوه.
ذكرُ تَلبيسِه على الطبائعيِّينَ:
وهمُ الذين ينسبون فعلَ كلِّ شيءٍ إلى الطبائعِ الأربعةِ، وهي الترابُ والماءُ والنارُ والهواءُ. لمّا رأى إبليسُ قلةَ موافقتِه على جَحدِ الصانعِ، لكونِ العقولِ شاهدةً بأنه لا بدَّ للمصنوعِ من صانعٍ، حسّنَ لأقوامٍ أنّ هذه المخلوقاتِ فعلُ الطبيعةِ، وقال مَا مِن شيءٍ يُخلقُ إلا مِن اجتماعِ الطبائعِ الأربعةِ فيه، فدلّ على أنّها هي الفاعلةُ.
ذكر تَلبيسِه على الثنويّةِ:
وهم قومٌ قالوا صانعُ العالَمِ اثنان، ففاعلُ الخيرِ نورٌ، وفاعلُ الشرِّ ظُلمةٌ، وهما مختلفان فِي النفسِ والصورةِ، متضادّانِ فِي الفعلِ والتدبيرِ. وقدْ ردّ العلماءُ عليهِم فِي قولِهم هذا فقالوا: لو كانا اثنينِ، لم يخلُ أن يكونا قادرَينِ، أَوْ عاجزَينِ، أَوْ أحدُهما قادرٌ والثاني عاجزٌ، ولا يجوزُ أن يكونا عاجزَينِ لأن العجزَ يمنعُ ثبوتَ الألوهيةِ، ولا يجوزُ أن يكونَ أحدُهما عاجزًا، فبقيَ أن يُقالَ هما قادران، فتصوَّرْ فيها أنَّ أحدَهما يريدُ تحريكَ هذا الجسمِ فِي حالةٍ يُريدُ الآخَرُ تسكينَه، ومن المحالِ وجودُ مَا يُريدانِه، فَإِن تمّ مُرادُ أحدِهما ثبتَ عجزُ الآخَرِ.
وقد لَبَّسَ إبليسُ على أقوامٍ من أهلِ ملَّتِنا، فدخل عليهم من بابِ قوةِ ذكائهم وفطنتِهم فأراهم أنّ الصوابَ اتِّباعُ الفلاسفةِ لكونِهم حكماءَ قد صدرتْ منهم أفعالٌ وأقوالٌ، دلّت على نهايةِ الذكاءِ وكمالِ الفطنةِ، كما يُنقلُ من حكمةِ سقراطَ وأبقراطَ وأفلاطونَ وغيرِهم، وهؤلاء كانت لهم علومٌ هندسيةٌ ومنطقيةٌ، واستخرجوا بفطنتِهم أمورًا خفيةً، إلا أنّهم لمّا تكلّموا فِي الإلهياتِ أخطؤوا ولذلك اختلفوا فيها.
ذِكرُ تَلبيسِه على عبّادِ الأصنامِ:
كلُّ محنةٍ لبَّس بِها إبليسُ على الناسِ، فسببُها المَيلُ إِلى الحِسّ والإعراضُ عنْ مُقتضى العقلِ، ولمّا كان الحسُّ يأنسُ بالمِثلِ، دعا إبليسُ لعنه اللَّهُ خلقًا كثيرًا إِلى عِبادةِ الصُّوَرِ، وأبْطلَ عندَ هؤلاءِ عملَ العقلِ بالمَرّةِ، فمنهم من صوّرَ له أنها الآلهةُ وحدَها، ومنهم مَن وجد فيه قليلَ فطنةٍ، فعلِم أنه لا يُوافقُه على هذا، فَزيّنَ لَهُ أنّ عبادةَ هذه الأصنامِ تُقرّبُ إلى الخالقِ، كما قال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}.
ذِكْرُ تَلبِيسِه على عَابِدِي النارِ والشمسِ والقمرِ:
لَبَّسَ إبليسُ على جماعةٍ، فحسَّن لهم عبادةَ النارِ، وقالوا هي الجوهرُ الذي لا يستغني العالَمُ عنه، ومن هُنا زَيّن عِبادةَ الشَمسِ. كما زيّن إبليسُ لأقوامٍ عبادةَ القمرِ ولآخرينَ عبادةَ النّجُومِ.
ذِكْرُ تَلبِيسه على اليهودِ:
لَبِّسَ إبليسُ عليهِم فِي أشياءَ كثيرةٍ، منها تشبيهُهم الخالقَ بالخلقِ، فزعمتِ اليهود أنّ الإلهَ المعبودَ رجلٌ من نورٍ، على كرسيٍّ مِن نورٍ، على رأسِه تاجٌ من نورٍ، وله أعضاءٌ كما للآدميين، ومِن ذلك قولُهم عُزيرٌ ابنُ اللهِ. ومن تلبيسِه عليهِم أنهم قالوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} (البقرة - 80)، وهي الأيام التي عُبْد فيها العِجْلُ، ثم حملهم إبليسُ على العنادِ المحضِ فجحدوا ما كان فِي كتابِهم من صفةِ نبيِّنا صلَّى اللَّهُ عَليهِ وسلَّم وغيّروا ذلك، وقدْ أُمروا أن يؤمنوا به.
ذكرُ تَلبيسِه على النَصَارى: تلبيسُه عليهم كثيرٌ، فمِن ذلك أنّ إبليسَ أوهمهم أنّ الخالقَ سبحانه جَوْهَرٌ، فقال اليعقوبيّةُ أصحابُ يعقوبَ، والملِكيّةُ أهلُ دينِ المَلِكِ، والنسطوريّةُ أصحابُ نسطورس، أنّ اللَّهَ جوهرٌ واحدٌ، وثلاثةُ أقانيمَ وهي ما يقومُ عليه الجوهرُ أو الطبيعةُ، فهو واحدٌ فِي الجوهريّةِ وثَلاثَةٌ فِي الأُقنوميّةِ، فأحدُ الأقانيمِ عندَهم الأبُ، والآخر الابنُ، والآخرُ روحُ القدُسِ.
ولبَّس عليهم أيضًا أمرَ نبيِّنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى جحدوه بعدَ ذكرِه فِي الإنجيلِ، ومن الكتابيِّينَ من يَقُولُ عَنْ نبيِّنا إنّه نبيٌّ إلا أنّه مبعوثٌ إِلَى العربِ خاصّةً، وهذا تلبيسٌ من إبليسَ استغفلهم فيه، لأنه متى ثبت أنه نبيٌّ فالنبيُّ لا يَكذبُ، وقد قَالَ: بُعثتُ إِلى النّاسِ كافّةً.
ذِكرُ تلبيسِه على القائلين بالتناسخِ:
وقدْ لبَّس إبليسُ على أقوامٍ قالوا بالتناسخِ، وأنّ أرواحَ أهلِ الخيرِ إذا خرجت دخلت فِي أبدانٍ خيّرةٍ فاستراحت، وأنّ أرواحَ أهلِ الشرِّ إذا خرجت تدخُلُ فِي أبدانٍ شِرّيرةٍ فيتحمّلُ عليها المشاقّ، وهذا المذهبُ ظهر فِي زمانِ فرعونِ مُوسَى.
ذِكرُ تلبيسِ إبليسَ على أمتِنا فِي العقائدِ والدياناتِ:
دخل إبليسُ على هذه الأمةِ فِي عقائدِها من طريقين، أحدُهما: التقليدُ للآباءِ والأسلافِ، والثاني: الخوضُ فيما لا يدرَكُ غَورُه، ويعجزُ الخائضُ عَن الوصولِ إِلَى عمقِه.
فأمّا الطريقُ الأَوَّلُ فَإِن إبليسَ زيّن للُمقلِّدين أنّ الأدلةَ قد تشتبهُ، وأنّ الصوابَ قد يخفى، وأنّ التقليدَ سليمٌ، وقدْ ضلّ فِي هذا الطريقِ خلقٌ كثيرٌ وبه هلاكُ عامّةِ الناسِ.
وأمّا الطريقُ الثاني فَإِن إبليسَ لمّا تمكّنَ من الأغبياءِ فورّطهم فِي التقليدِ وساقهم سوقَ البهائمِ، ثم رأى خلقًا فيهم أصحابُ ذكاءٍ وفطنةٍ، فاستغواهم على قدرِ تمكُّنِه منهم، فمنهم من أراهُ أن الوقوفَ مَعَ ظواهرِ الشرائعِ عجزٌ، فسَاقهم إِلَى مذهبِ الفلاسفةِ، ولم يزل بهؤلاءِ حتى أخرجهم عَن الإسلامِ، ومنهم من نفّرهُ إبليسُ عَن التقليدِ وحسّنَ لَهُ الخوضَ فِي علمِ الكلامِ والنظرَ فِي أوضاعِ الفلاسفةِ، وقدْ تنوَّعت أحوالُ المتكلِّمين وأفضى الكلامُ بأكثرِهم إِلَى الشكوكِ وببعضِهم إِلَى الإلحادِ.