البابُ العاشرُ

فِي ذِكرِ تَلبِيسِه على الصوفيّةِ من جُملةِ الزهّادِ

كان التصوّفُ طريقةً ابتداؤها الزُهدُ الكليُّ، ثم ترخّص المنتسبون إليها بالسماعِ والرقصِ، فمال إليهِم طلابُ الآخرةِ من العوامِّ لما يُظهرونه من التزهّدِ، ومال إليهم طلابُ الدنيا لما يرون عندَهم من الراحةِ واللعبِ، لذلك فمنَ المهمِّ أن نكشفَ كيف لبّس إبليسُ عليهِم منذُ البدايةِ.

كان أولُ منِ انفرد بخدمةِ اللَّهِ سبحانه وتعالى عندَ بيتِه الحرامِ رجلٌ يقال لَهُ صُوفةُ واسمُه الغَوثُ بنُ مُرٍّ، فانتسب إليه بعضُ الناسِ الذين تعلّقوا بالزهدِ والعبادةِ وتخلَّوا عنِ الدنيا، فَسُمّوا بالصوفيّةِ. كان التصوّفُ عندَ هؤلاء الناسِ هو رياضةُ النفسِ، ومُجاهدةُ الطبعِ بِرَدِّه عنِ الأخلاقِ الرذيلةِ، وحَملِهِ على الأخلاقِ الجميلةِ من الزهدِ والحِلمِ والصبرِ والإخلاصِ والصدقِ، وعلى هذا كان أوائلُ القومِ، حتى لَبَّس إبليسُ عليهم فِي أشياءَ، ثم لَبَّس على مَن بَعدَهم مِن تابعيهم، فكلما مضى قرنٌ زاد طمعُه فِي القرنِ الثاني، فزاد تلبيسُه عليهم، إِلى أن تمكّن من المتأخرينَ غايةَ التمكُّنِ.

ذِكرُ تلبيسِ إبليسَ على الصوفيةِ فِي المساكنِ:

قام الصوفيّون ببناءِ الأربطةِ كبديلٍ للمساجدِ، وكانوا يجتمعون فيها للانفرادِ بالتعبُّدِ، ولكنّهم أخطئوا لأنّهم ابتدعوا هذا البناءَ، فبُنيانُ أهلِ الإسلامِ المساجدُ، كما أنّهم تشبّهوا بالنصارى بانفرادِهم بالأديرةِ، وزهدوا في الزواجِ بينما هم شبابٌ وأكثرُهم محتاجٌ إِلَى النكاحِ.

ذِكرُ تلبيسِ إبليسَ على الصوفيةِ فِي الخروجِ عنِ الأموالِ والتجرُّدِ عنها:

كان إبليسُ يُلَبِّسُ على أوائلِ الصوفيّةِ لصدقِهم فِي الزهدِ، فكان يُخوِّفُهم من شرِّ المالِ، فيتجرَّدون من الأموالِ ويجلسون على بِساطِ الفقرِ. وقد صحَّ عن رسولِ اللَّهِ أَنّه نهى عن إضاعةِ المال، وقال لسعدٍ: "لَأنْ تتركَ ورثتَك أغنياءَ، خيرٌ لك من أن تتركَهم عالةً يتكفّفون الناسَ".

ذِكرُ تلبيسِ إبليسَ على الصوفيّةِ في مطاعمِهم ومشاربِهم:

بالَغ إبليسُ فِي تلبيسِه على قدماءِ الصوفيّةِ، فأمرهم بتقليلِ المَطعمِ وخشونتِه، ومنعَهم شُربَ الماءِ الباردِ، وكان بعضُهم لا يأكلون اللحمَ، فكانوا يقولون بأنّ أكلَ درهمٍ من اللحمِ يُقسي القلبَ أربعين صباحًا. وكان فيهم من يمتنعُ من الطيباتِ كلِّها ويحتجُّ بما قاله رَسُولُ اللَّهِ لعائشةَ في حديثِه: "احْرِمُوا أنفسَكُمْ طَيِّبَ الطَّعَامِ فَإِنَّمَا قَوِيَ الشيطانُ أَنْ يَجْرِيَ فِي العُرُوقِ بِهَا"، ولكنّهم نسُوا أنّه لا يجوزُ حملُ النفسِ على مَا لا تُطيقُ، ثم إن اللَّهَ عزَّ وجلَّ أكرمَ الآدميين بالحِنطةِ وهي القمحُ، وجعلَ قشورَها لبهائمِهم فلا تصلحُ مزاحمةُ البهائمِ فِي أكلِ التبنِ كما كانوا يفعلون.

وأما كونُهم لا يأكلون اللحمَ فهذا مذهبُ البراهمةِ الذين لا يرَون ذبحَ الحيوانِ، واللَّهُ عزَّ وجلَّ أعلمُ بمصالحِ الأبدانِ فأباحَ اللحمَ لتقويتِها، فَأكْلُ اللحمِ يُقوي البدنَ وتركُه يُضعفُه، وقَدْ كان رسولُ اللَّهِ يأكلُ اللحمَ ويُحبُ الذارعَ من الشاةِ.

ذِكرُ تلبيسِ إبليسَ على الصوفيةِ فِي السماعِ:

إنّ سماعَ الغناءِ يجمعُ شيئين؛ أحدُهما: أنّه يُلهي القلبَ عنِ التفكرِ فِي عظمةِ اللَّهِ سبحانَه، والثاني: أنه يُميلُه إِلى اللذاتِ العاجلةِ التي تدعو إِلى استيفائها من جميعِ الشهواتِ الحسيّةِ ومعظمُها النكاحُ.

فأمّا مَن قال إنّي لا أسمعُ الغناءَ للدنيا وإنما آخذُ منه إشاراتٍ فهو يُخطئُ من وجهينِ: أحدُهما أنّ الطبعَ يسبقُ إِلَى مقصودِه قبلَ أخذِ الإشاراتِ، فيكونُ كمن قَالَ إني أنظرُ إِلَى هذه المرأةِ المستحسَنةِ لأتفكرَ فِي الصنعةِ، والثاني: أنه يقلُّ فيه وجودُ شيءٍ يُشارُ به إِلَى الخالقِ، وقد جلَّ الخالقُ تباركَ وتعالى أن يُقالَ فِي حقِّه إنه يُعشقُ ويقعُ الهيَمانُ به، وإنما نصيبُنا من معرفتِه الهيبةُ والتعظيمُ فقطْ.

وَقَدْ كان جماعةٌ من قدماءِ الصوفيةِ يُنكرون على المبتدئِ السماعَ لعلمِهم بما يثيرُ من قلبِه.

قال أبو الحُسَيْنِ النَّوريُّ لبعضِ أصحابِه: "إذا رأيتَ المُريدَ يسمعُ القصائدَ ويميلُ إِلَى الرفاهيةِ، فلا ترجُ خيرَه". كان هذا قولَ مشايخِ القومِ، ولكنْ ترخّصَ المتأخرون في حبِّ اللهو، فتعدّى شرُّهم من وجهينِ: أحدُهما سوءُ ظنِّ العوامِّ بقدمائهم لأنهم يظنّون أن الكلَّ كانوا هكذا، والثاني: أنهم جرَّءُوا العوامَّ على اللعبِ فليس للعاميِّ حُجةٌ فِي لعبِه إلا أن يقولَ فلانٌ يفعلُ كذا ويفعلُ كذا.

ومِن تلبيسِه عليهِم فِي مسألةِ أنّ التوكلَ يُنافي الكسبَ:

هذا كلامُ قومٍ مَا فهموا معنى التوكلِ، وظنّوا أنّه تركُ الكسبِ وتعطيلُ الجوارحِ عَنِ العملِ، بينما التوكلُ فعلُ القلبِ فلا يُنافي حركةَ الجوارحِ، ولو كان كلُّ كاسبٍ ليس بمتوكلٍ لكان الأنبياءُ غيرَ متوكلين فقد كان آدمُ عليه السلامُ حرّاثًا، ونوحٌ وزكريّا نجّارَين، وإدريسُ خياطًا، وكان مُوسَى وشعيبُ ومحمّدٌ رُعاةً صلواتُ اللَّهِ عليهِم أجمعين.

وكان لو قال رجلٌ للصوفيةِ: مِن أين أُطعمُ عيالي؟ لقالوا له: قد أشْرَكتَ، ولو سُئلوا عمّن يَخرجُ إِلَى التجارةِ لقالوا: ليس بمتوكلٍ ولا موقنٍ، وكلُّ هذا لجهلِهم بمعنى التوكلِ واليقينِ، وأنّه لا يُناقضُ حركةَ البدنِ فِي التعلقِ بالأسبابِ ولا ادخارِ المالِ.

ذكرُ تلبيسِ إبليسَ على الصوفيةِ فِي تركِ التداوي:

لا يختلفُ العلماء أنّ التداويَ مباحٌ، وإنمّا رأى بعضُهم أنّ العزيمةَ تركُه، وأنّ التداويَ خارجٌ من التوكلِ، وأنّه يُخرجُ فاعلَه من الرضا بقضاءِ اللهِ، ولكنَّ هذا غيرُ صحيحٍ، فقد صحَّ عن رسولِ اللَّهِ أنه تداوى وأمر بالتداوي، ولم يَخرجْ بذلك من التوكلِ ولا أَخرجَ من أمرَه أن يتداوى من التوكلَ.

ذكرُ تلبيسِ إبليسَ على الصوفيةِ فِي الأسفارِ والسياحةِ:

لَبَّسَ إبليسُ على خلقٍ كثيرٍ منهم فأخرجهم إِلَى السياحةِ لا إِلَى مكانٍ معروفٍ ولا إِلَى طلبِ علمٍ، وكان أكثرُهم يخرجُ عَلى الوحدةِ ولا يستصحبُ زادًا، ويدّعي بذلك الفعلِ التوكلَ.

فكم تفوتُه من فضيلةٍ وفريضةٍ، وهو يرى أنه فِي ذلك على طاعةٍ، وَهُوَ من العصاةِ المخالفين لسنةِ رسولِ اللَّهِ، فقد نهى رسولُ اللَّهِ عَنِ السعيِ فِي الأرضِ فِي غير أرَبٍ وحاجةٍ، وعن أن يُسافرَ الرجلُ وحدَه.

ذِكْرُ تلبيسِ إبليسَ على الصوفيةِ إذا مات لهم ميتٌ:

له فِي ذلك تلبيسانِ:

الأَوَّلُ: أنهم يقولون لا يُبكى على هالكٍ ومَن بكى على هالكٍ خرج عن طريقِ أهلِ المعارفِ. وهذه دعوى تزيدُ على الشرعِ، فهي حديثُ خرافةٍ وتخرجُ عَنِ العاداتِ والطباعِ، فإِن اللَّهَ تعالى أخبرَ عن نبيٍّ كريمٍ فقال: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} وقال: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}، وقد بكى رَسُولُ اللَّهِ عند موتِ ولدِه وقال: "إن العينَ لتدمعُ" وقال: "واكرباه".

والثاني: أنّهم يفرحون للميتِ ويقولون وصلَ إِلَى ربِّه، ولا وجهَ للفرحِ لأنّا لا نتيقّنُ أنّه قد غُفِر له، وما يؤمِّنُنا أن نفرحَ له وهو مِن المعذَّبين، ثم إنّهم يرقُصون ويلعبون فِي تلك الدعوةِ، فيَخرُجون بهذا عنِ الطباعِ السليمةِ التي يُؤثِّر عندها الفراقُ.

ذِكْرُ نُبذةٍ من كلامِهم فِي القرآنِ:

غالط بعضُ الصوفيِّين في تفسيرِ آياتِ القرآنِ الكريمِ، وتجرّؤوا على اللهِ في ذلك، وكانت لهم أقوالٌ غريبةٌ لا يُقرّها عقلٌ، ناتجةٌ عن الجهلِ بمعاني كلامِ اللهِ وحقيقةِ شرعِه، ومنها مثلًا قولُ النَّوريِّ لرجلٍ كان يقبضُ على لحيةِ نفسِه: "نَحِّ يدَك عَنْ لحيةِ اللَّهِ" فرفع الرجُلُ ذلك إِلَى الخليفةِ، فلمّا دخل النَّوريُّ عليه قال له الخليفةُ: "بلغني أنه نبحَ كلبٌ فقلتَ: لبيكَ وسعديكَ، ونادى المؤذِّنُ فقلتَ: طَعنهُ سُمُّ الموتِ. فقال النوريُّ: "نَعمْ. فقد قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}، فقلتُ لبيك لأنه ذَكر اللَّهَ، فأما المؤذّنُ فإنه يذكرُ اللَّهَ وَهُوَ متلوّثٌ بالمعاصي، غافلٌ عَنِ اللَّهِ تعالى، ونَعَمْ قُلتُ للرجلِ نَحِّ يدَك عَنْ لحيةِ اللَّهِ، أليس العبدُ للهِ؟ ولحيتُه للهِ؟ وكلُّ مَا فِي الدنيا والآخرةِ لَهُ؟

ومنها أنّ ولدًا صغيرًا ضاع من أهلِ الصوفيّةِ، فقال أبُو حامدٍ لوالدِه: "لو سألتَ اللَّهَ أن يردَّه عليك"، فقال له الرجلُ: "اعتراضي عليه فيما يقضي - يقصدُ اللهَ عزَّ وجلَّ - أشدُّ عليَّ من ذَهابِ ولدي". وقد طال تعجُّبي من أبي حامدٍ، كيف يحكي هذه الأشياءَ فِي معرِضِ الاستحسانِ والرِّضى عن قائلها، وَهُوَ يدري أن الدعاءَ والسؤالَ ليس باعتراضٍ على قدرِ اللهِ؟


تَلبِيسُ إبلِيس
تَلبِيسُ إبلِيس
ابن قيم الجوزية
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00