قصّة إبراهيم خَليلُ الرحمن

هو إبراهيم بن تارخ بن ناحور بن ساروغ بن راعو ابن فالغ بن عابِر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام.

تزوّج إبراهيم سارة وكانت عاقِرًا لا تلِد. وقيل أنّ "تارخ" قد انطلق مع ابنه إبراهيم وزوجته سارة وابن أخيه لوط إلى أرض الكنعانيين، وهي المنطقة التي تشمل بلاد فلسطين ولبنان وأجزاء من الأردن وسوريا.

وكل مَن كان على وجه الأرض حينها كانوا كفارًا، سوى إبراهيم الخليل وامرأته سارة وابن أخيه لوط، فأزال الله هذه الشرور بإبراهيم وبعثه في هؤلاء الناس ليدعوهم لعبادة الله.

وكان أول مَن دعا إبراهيم هو أبوه "تارخ" الذي كان من عبدة الأوثان، ولكنّ أبوه نهره وهدّده بالرَجم إن لمْ يَعُد عن دعوته تلك، فتركه إبراهيم يستغفر له في دعواته، ولكنّه تبرأ منه لمّا تبيّن له أنّه عدو الله، ثم ذهب لقومه يدعوهم أيضًا وناظرهم في الأوثان والكواكب التي يعبدونها وكسرها وأهانها في بُطلانها، وكان جوابهم عليه أن قالوا اقتلوه أو حرِّقوه، وأشعلوا نارًا وألقوه فيها، ولكنّ الله نجّاه منها وجعلها بردًا وسلامًا على جسده وجعل من جميع الحيوانات أن ينفخوا في النار لتنطفئ إلّا الوَزغ- وهو البُرْص- الذي نفخ فيها كي يزيدها اشتعالًا؛ وهو الحيوان الذي أمرَ رسول الله بقتله عند رؤيته.

ترك إبراهيم هؤلاء القوم وهاجر مع زوجته سارة وابن أخيه لوط إلى الشام، فأوحى له الله أنّي جاعلٌ هذه الأرض لخلَفِك من بعدك، فبنى إبراهيم مذبحًا بها شكرًا لله، وضرب قُبَّته شرقيّ بيت المقدس، فلما أصابهم جوع وشدة بلاء، ارتحلوا إلى مصر التي التقى فيها بخادمة الملك (هاجر) القبطية المصرية، ثم خرج منها ورجع إلى بلاده مع هاجر، ومعه دواب وعبيد وأموال.

 

ذِكر مولِد إسماعيل عليه السلام

قال أهل الكتاب أنّ إبراهيم سأل الله ذريّةً طيبةً، وأنّه لمّا كان لإبراهيم ببلاد المقدس عشرون سنةً، قالت له سارة: "إن الربّ قد أحرمني الوَلد فادخل على أَمَتِي هذه (هاجَر) لعلّ الله يرزقني منها ولدًا"، فلمّا وهبتها له دخل بها إبراهيم عليه السلام وحملتْ منه.

وضعت هاجر إسماعيل عليه السلام، وقالوا ولدَتْه ولإبراهيم من العمر ست وثمانون سنةً قبل مولِد إسحق بثلاث عشرة سنةٍ، ولمّا وُلِد إسماعيل أوحى الله إلى إبراهيم يبشّره بإسحق من سارة.

اشتدّت غَيرة سارة من هاجر بعد مَولد إسماعيل، وشكتَها إلى إبراهيم، وطَلبت منه أن يذهب بها وبولدها بعيدًا عنها، فذهب إبراهيم بهاجر وإسماعيل الذي كان رضيعًا إلى مَكّة، عند البيت عند دَوْحة فوق زمزم، ولم يكن بمكةِ يومئذٍ أحد، ولم يكن بها ماء، وتركهما وحيدين هناك.

وقبل أن يرحل إبراهيم سألتهُ هاجر: "آلله أَمَرَكَ بهذا؟" أجابها: "نعم" فردّت هاجر: "إذًا لن يُضيّعنا".

وحينما اشتدّ عطش هاجر بعد رحيل إبراهيم، أخذت تسعى بين جبل الصفا وبطن الوادي وصولًا إلى المروة بحثًا عن الماء، وذلك سبع مراتٍ، فوجدتْ مَلكًا عند موضع زمزم يبحثُ في الأرض حتى ظهر الماء، فشربت وأرضعت ولَدها، وقال لها المَلَكُ قبل رحيله: "لا تخافي الضيعة فإن ها هنا بيتا لله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله".

سَكنْت هاجر وابنها في هذا الوادي، حتى مرّ بهما رفقة فنزلوا في الوادي وأنزلوا أهليهم معهم، فشبّ إسماعيل بينهم، وتعلّم العربية منهم، وتزوج امرأة منهم.

أما قصة الذبيح، فقد رَأى إبراهيم عليه السلام في مَنامهِ أنه يؤمر بذبح ابنه اسماعيل، فأخبر ابنهُ بما رآه في منامه، وأجابهُ إسماعيل بأن يَفعل ما يُؤمر به، وبأنّه سَيكون من الصَابرين.

فلمّا أسْلَما واستعدا لتنفيذ أمر الله، وسمّى إبراهيم وكَبّر، وتَشهّد الولدُ للموت، عندها نُودي من الله تعالى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)﴾ [الصافات]، أي قد حصل المقصود من اختبارك وطاعتك يا إبراهيم، فذلك كان البلاء المُبين أي الاختبار الواضح، وسَنفدي ابنك بذبحٍ عظيم، والذي اتفق الجمهور على أنّه كبش أبيض أعيْن أقْرَن، أي عظيم سواد العين، وكبير القرنين.

 

بناء البيت العتيق

يذكر الله تعالى في كتابه عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء ووالد الأنبياء إبراهيم، أنّه بنى البيت العتيق الذي هو أول مسجدٍ وُضِع لعموم الناس يعبدون الله فيه، وبوَّأَه الله مكانه أي أرشده إليه وكان ببكَّة، وقيل مكّة وقيل محل الكعبة، ولهذا قال {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 125] أي الحجر الذي كان يقف عليه قائمًا لما ارتفع البناء عن قامته، فوضع له ولَده إسماعيل هذا الحجر المشهور ليرتفع عليه. وقد كان الحجر مُلصَقًا بحائط الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام عُمر بن الخطاب، فأخَّره عن البيت قليلًا لئلّا يشغل المُصلين عنده الطائفين بالبيت، وقد كانت آثار قدميّ إبراهيم باقيةً في الصخرة إلى أوّل الإسلام.

أمّا عن وفاة إبراهيم عليه السلام فقد ذكر ابن جرير أنّ مولده كان في زمن النمرود بن كنعان، الذي حدثت بينه وبين إبراهيم مُناظرة شهيرة، ذكرها الله في القرآن، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 258]. فأهلك الله النمرود، وهاجر بعدها إبراهيم إلى حران (جنوب شرقي تركيا حاليًا)، ثم إلى أرض الشام وأقام ببلاد إيليا (بيت المقدس حاليًا)، وماتت امرأته سارة قبله بقرية حبرون التي في أرض كنعان، والتي هي حاليًا مدينة الخليل بالقدس ولها من العمر مائة وسبع وعشرون سنةً، وقيل أنّ إبراهيم عليه السلام قد مات فجأةً مثل داود وسليمان، وقيل أنّه مرِض ومات عن مائةٍ وخمسٍ وسبعين، وقيل مائة وتسعين سنةً، ودُفِن في المغارة المذكورة بقرية حبرون عند امرأته سارة، وتولى دفنه إسماعيل وإسحق عليهما السلام.

 

قصّة قوم لُوط عليه السلام

كان لوط قد نزَح عن محل عمّه الخليل، فنزل بمدينة سدوم من أرض غور زغر، (منطقة البحر الميت بالأردن حاليًا)، وكانت هذه المدينة هي أمّ تلك الأرض ولها قومٌ من أفجر الناس وأكفرهم، ابتدعوا فاحشةً لم يسبقهم إليها أحدٌ من بَني آدم، وهي إتيان الذكور من العالمين.

فدعاهم لوط لعبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي هذه المُحرّمات والفواحش والمنكرات، فتمادوا في ضلالهم، واستمرّ ذكورهم في معاشرة بعضهم جهرًا وعلانيةً، فأحلّ الله بهم من البأس الذي لا يُرَدُّ، وجعلهم مُثلَةً في العالمين.

وكان هذا بأن أرسل الله رسله من الملائكة إلى لوط، فالتقوا ابنته عند نهر سدوم تستقي الماء لأهلها، وكان للوط ابنتان، الكبرى (ريتا) والصغرى (ذعرتا)، فسألوها: يا جارية! هل من منزلٍ؟ فخافت عليهم من قومها لأنّها لمْ ترى وجوهًا قطّ أحسن منهم، وهرعت لأبيها تخبره، فاستقبلهم في داره يخبِّئهم، وخرجت امرأته تخبر قومها، فأتوا لوط يطلبون ضيوفه، ولكنّه سألهم بأن يتزوجوا ببناته، فهنّ أطهر لهم، ولكنّهم رفضوا وجعلوا يتدافعون على بابه وهو يمنعهم ويعِظهم.

قال تعالى: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ ۖ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ۖ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ۚ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81].

طلبت الملائكة من لوط بأن يسري هو وأهله من آخر الليل، ولا يلتفت منهم أحدٌ عند سماع صوت العذاب إذا حلّ بقومه، وأمروه أن يكون سيره في آخرهم كالساقة لهم إلّا امرأته كانت من الغابرين، أي من الباقين في عذاب الله تعالى.

فسار بأهله، ولما أشرقت الشمس نزل بقومه العذاب، وأمطر الله عليهم حجارةً من سجّيلٍ، وقيل إن جبريل عليه السلام خرج عليهم فضرب وجوههم خفقةً بطرف جناحه فطُمِستْ أعينهم، واقتلعهنّ جبريل بجناحه، وكُنّ سبع مدنٍ بمن فيهنّ من الأمم، وقيل أنّهم كانوا أربعمائة نَسمة وما معهم من الحيوانات، يرفعهم حتى بلغ بهم عنان السماء ثمً قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها.

وجعل الله مكان تلك البلاد بحرةً مُنتَنةً لا يُنتَفع بمائها ولا بما حولها من الأراضي لرداءتها.


البداية والنهاية - الجزء الأول
البداية والنهاية - الجزء الأول
أبي الفداء إسماعيل بن كثير
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00