يقول الإمام أبو الفداء إسماعيل بن كثير:
قال الله تعالى في كتابه العزيز: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62]، فكلّ ما سوّاه تعالى فهو مخلوقٍ له، مربوب مدبَّر. الجميع خلقه، وملكه وعبيده وتحت قهره وقدرته، وتحت تصريفه ومشيئته.
فهذا كتابٌ يُذكَر فيه بفضل الله وحُسن توفيقه ما يسّره الله تعالى بحوله وقوّته من ذكر مبدأ المخلوقات: من خلق العرش والكُرسيّ والسماوات، والأرضين وما فيهنّ وما بينهن من الملائكة والچان والشياطين، وكيفية خلق آدم عليه السلام، وقصص النبيين، وما جرى مجرى ذلك إلى أيام بني إسرائيل وأيام الجاهلية، حتى تنتهي النبوة إلى أيام محمد -صلوات الله وسلامه عليه-، فتُذكَر سيرته كما ينبغي فتشفي الصدور والغليل، وتزيح الداء عن العليل، ثم نذكر ما بعد ذلك إلى زماننا هذا.
ولا يُذكَر فيه من الإسرائيليات إلّا ما أذِن الشارع في نقله مما لا يخالف كتاب الله، وسُنة رسوله ﷺ.
قال الله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر: ١٥]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر: ٧]، وفي الدعاء المروي في الصحيح: «لا إله إلّا الله العظيم الحليم. لا إله إلّا الله رب العرش الكريم. لا إله إلّا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم»، وفي الصحيح أنّ رسول الله ﷺ قال: «لقد اهتزّ عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ».
في صفة العرش قيل عن بعض السَلف: «أنّ العرش مخلوقٌ من ياقوتة حمراء بُعد ما بين قُطريه مسيرة خمسين ألف سنةٍ»، وقال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنةٍ} [المعارج: ٤]، وهذا يُفهم منه أن بُعد ما بين العرش إلى الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنةٍ واتساعه خمسون ألف سنةٍ.
فالعرش هو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم وسقف المخلوقات.
وأمّا الكرسيّ: عن ابن عبّاس: "العرش لا يقدر قدره إلّا الله عز وجل"، وقال السُدى عن أبي مالك: «الكرسي تحت العرش".
وقال السُدى: "السماوات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش». وعن ابن عباس أنّه قال: «لو أنّ السماوات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهنّ إلى بعض، ما كُنّ في سِعة الكرسيّ إلا بمنزِلة الحلقة في المفازة"، أي كحلقة الحديد التي أُلقيت في الصحراء.
عن ابن عباس أنّ نبي الله ﷺ قال: «إنّ الله خلق لوحًا محفوظًا من درّة بيضاء صفحاتها من ياقوتة حمراء، قلمه نور وكتابه نور لله، فيه في كل يومٍ ستون وثلثمائة لحظةٍ يخلق ويرزق ويُميت ويُحيي ويُعزّ ويذل ويفعل ما يشاء». وقال أنس بن مالك وغيره من السَلف: «اللوح المحفوظ في جبهة إسرافيل»، وقال مقاتل بن سليمان: «هو عن يمين العرش».
قال تعالى: {خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [السجدة: ٤]، وقد اختلف المفسّرون في مقدار هذه الستة أيام على قولين: فالجمهور على أنّها كأيامنا هذه، وعن بعض السلف أنّ كل يومٍ منها كألف سنةٍ مما تعدّون.
يقول أهل التوراة أن خلق السماوات والأرض وما بينهما ابتدأ بيوم الأحد، ويقول أهل الإنجيل أنّه ابتدأ بيوم الاثنين، ونقول نحن المسلمون فيما انتهى إلينا عن رسول الله ﷺ، ابتدأ الله الخلق يوم السبت. ولهذا كمُلَ الخلق في ستة أيامٍ فكان آخرهنّ الجمعة، فاتخذه المسلمون عيدهم في الأسبوع، وهو اليوم الذي أضلّ الله عنه أهل الكتاب قبلنا.
أمّا فيما ورَد عن السبع أرضين، ذكر البخاري عن رسول الله ﷺ أنّه قال: «مَن أخذ شيئًا من الأرض بغير حقّه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين».
وفي عدد الشهور ذكر البخاري عن رسول الله ﷺ أنه قال: «الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثني عشر شهرًا»، الحديث ومراده الله أعلم به، ولكن عدة الشهور الآن اثني عشر شهرًا مطابقةً لمدة الشهور عند الله في كتابه الأول في الزمان.
وعن فصل البحار والأنهار: قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، وَأَلْقَىٰ فِى ٱلْأَرْضِ رَوَٰسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَٰرًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [النحل: ١٤-١٥]، فقال علماء التفسير أنّ الأرض مغمورةٌ بالماء العظيم إلّا مقدار الربع منها، وهو تسعون درجةٍ، والعناية الإلهية اقتضت انحسار الماء عن هذا القدر منها لتعيش الحيوانات عليها وتنبت الزرع والثِمار.
وقالوا أنّ البحر المحيط الغربي الذي يُقال له (أوقيانوس)، وهو الذي يتاخم بلاد المغرب وفيه الجزائر الخالدات وبينها وبين ساحله عشر درج مسافة شهر تقريبًا، وهو بحرٌ لا يُمكن سلوكه ولا ركوبه لكثرة تموجّه واختلاف ما فيه من الرياح والأمواج وليس فيه صيدٌ، وهو آخذٌ في ناحية الجنوب حتى يُسامت (ضبطه بعض أهل الجغرافية بفتح القاف والميم. والثقات منهم على انه بضم القاف وسكون الميم) جبال القمر، ويُقال جبال القمر التي منها أصل منبع نيل مصر ويتجاوزون خط الاستواء. بينما ينبعث من المحيط الشرقيّ بحار أُخَر فيها جزائر كثيرة، يُقال أنّ في بحر الهند ألف جزيرة وسبعمائة جزيرة فيها مدن وعمارات سوى الجزائر العاطلة، ويُقال لها البحر الأخضر فشرقيه بحر الصين وغريبه بحر اليمن وشماله بحر الهند وجنوبيه غير معلوم.
قال تعالى في كتابه العزيز: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر: ١]، فمن الملائكة المُصرَّح بذكرهم في القرآن وفي الصحاح هم المذكورون في الدعاء النبويّ: «اللهمّ ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل».
فجبريل ينزل بالهدى على الرُسل لتبليغ الأمم، قيل في صفاته أنّه شديد القوة، رفع مدائن قوم لوط السبعة بمن فيها من الأمم على طرف جناحه، له منزلةٌ عالية عند الله. له ستمائة جناح، كل جناحٍ منها قد سدّ الأفق.
وإسرافيل وهو أحد حملة العرش، وهو الذي ينفخ في الصور بأمر ربه ثلاث نفخات.
وميكائيل موكَّلٌ بالقطر والنبات اللذين يخلق منهما الأرزاق في هذه الدار.
أما مَلك الموت فليس بمصرّح باسمه في القرآن ولا في الأحاديث الصِحاح، وقد جاءت تسميته في بعض الآثار بعزرائيل والله أعلم.
ومن الملائكة المنصوص على أسمائهم في القرآن هاروت وماروت، ولكنّ القول يرجّح إلى أنهما من الجِنّ.
ومن الملائكة المسمّين في الحديث منكر ونكير عليهما السلام، وقد استفاض ذكرهما في الأحاديث عن سؤال القبر، وهما فتَّانَا القبر، الموكَّلان بسؤال الميت في قبره عن ربه ودينه ونبيه.
ثمّ الملائكة عليهم السلام بالنسبة إلى ما هيأهم الله لهم أقسام؛ منهم حَمَلة العرش، ومنهم أيضًا سكان السماوات السبع يعمّرونها عبادةً دائبةً ليلًا ونهارًا صباحًا ومساءً، ومنهم الملائكة الموكّلون بالجِنان وإعداد الكرامة لأهلها وتهيئة الضيافة لساكنيها، ومنهم خازن الجنة مَلكٌ يُقال له رضوان، ومنهم الموكّلون بالنار وهم الزَّبانية ومقدّموهم تسعة عشر، ومنهم الموكَّلون بحفظ أعمال العِباد كما في قوله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (١٧) مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق].
قال تعالى: {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ (١٥) [الرحمن]
وعن عائشة قال رسول الله ﷺ: «خُلقت الملائكة من النور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وُصف لكم»، أي من الطين. وقال الحسن البصري رحمه الله: "ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الجن، كما أن آدم عليه السلام أصل البشر".
وقال شهر ابن حوشب وغيره، أنّ إبليس كان من الجِن الذين طردتهم الملائكة، فأسره بعضهم وذهب به إلى السماء، قال فلما أراد الله خلق آدم وذريته في الأرض من بعده وصوّر جثته منها، جعل إبليس يطوف به، فلما رآه أجوف عرف أنّه خلق لا يتمالك، وقال أما لئن سُلِّطتُ عليك لأهلكنّك ولئن سلطت عليَّ لأعصينّك. فلما أن نفخ الله في آدم من روحه وأمر الملائكة بالسجود له، دخل إبليس منه حسدٌ عظيمٌ، وامتنع من السجود له، وقال أنا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ وخلقتَه من طينٍ، فخالف الأمر واعترض على الرب عزّ وجلّ حتى أبعده عن رحمته، وأنزل من رتبته التي كان قد نالها بعبادته، وكان قد تشبّه بالملائكة ولمْ يكن من جنسهم لأنّه مخلوقٌ من نارٍ وهم من نورٍ.
فأهُبِط إبليس من الملأ الأعلى وحُرِّم عليه قدرًا أن يسكنه، فنزل للأرض ذليلًا حقيرًا مُتوَعَّدًا بالنار هو ومَن اتبعه من الجِنّ والإنس، يجاهد لإضلال بني آدم بكل الطرق؛ فهو أكبر كافري الجِن، له عرشٌ على وجه البحر، وهو جالسٌ عليه يبعث سراياه يلقون بين الناس الشر والفِتن، كما روى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله فيما قاله رسول الله ﷺ.