مُقدّمة

الزكاة هي الركن المالي الاجتماعي من أركان الإسلام الخمسة، ومثل هذا الركن الخطير يحتاج من الباحثين إعادة عرضه، ولا يكتفي بما ألفه فيه علماؤنا في العصور الماضية، فلكل عصر لغة، وهناك أمور جدت في عصرنا تحتاج إلى إصدار حكم بشأنها، ولذا سنحاول من خلال هذا البحث تمحيص ما ورد من خلافات كثيرة في هذا الموضوع، بغية الوصول إلى أرجح الآراء وفق الأدلة الشرعية وعلى ضوء حاجة المسلمين ومصلحتهم في هذا العصر، مع بيان أهداف الزكاة وآثارها في حياة المجتمع المسلم، وتصحيح ما شاع من أفكار خاطئة حول الزكاة.

 

في معنى الزكاة والصدقة

معنى الزكاة لغة وشرعًا

الزكاة لغة: مصدر (زكا) الشيء إذا نما وزاد، وفي لسان العرب هي الطهارة والنماء والبركة.

والزكاة في الشرع: هي الحصة المقدرة من المال التي فرضها الله للمستحقين، كما تطلق على نفس إخراج هذه الحصة، وسميت الحصة المخرجة من المال زكاة لأنها تزيد في المال الذي أخرجت منه، والنماء والطهارة ليسا في المال وحسب؛ بل أيضا في نفس المعطي للزكاة، كما قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)  [التوبة:103].

معنى الصدقة

الزكاة الشرعية قد تسمى في لغة القرآن والسنة صدقة، قال تعالى: ﴿۞ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 60]، وهناك الكثير من النصوص الأخرى التي جاءت في شأن الزكاة وعبرت عنها بالصدقة، ومنه سمي العامل على الزكاة مصدقا؛ لأنه يجمع الصدقات ويفرقها، ولكن العرف قد ظلم كلمة الصدقة، فأصبحت عنوانا للتطوع وما تجود به النفس، لكن الحقيقة في لغة العرب في عهد نزول القرآن أن الصدقة مأخوذة من الصدق، فالصدقة دليل الصدق في الإيمان والتصديق بيوم الدين، ولهذا قال رسول الله ﷺ: "الصدقة برهان".

الزكاة في القرآن الكريم

تكررت كلمة الزكاة معرفة في القرآن الكريم ثلاثين مرة، ثمانية منها في السور المكية وسائرها في السور المدنية، أما كلمة الصدقة والصدقات، فقد وردت في القرآن اثنتي عشرة مرة كلها في القرآن المدني.

 

الباب الأول: وجوب الزكاة ومنزلتها في الإسلام

قبل أن نبين وجوب الزكاة ومنزلتها في الإسلام، سنستعرض ما كان عليه الفقراء في الديانات والشرائع السابقة، لنعرف كيف سبق الإسلام كل الديانات، وأقام العدل والتكافل الاجتماعي على أسس متينة وفق ما جاء في القرآن والسنة.

الفقراء في الحضارات السابقة

في أية أمة من الأمم توجد طبقتان من الناس، الطبقة الموسرة التي تتضخم إلى غير حد، والطبقة المعسرة، كما كان الحال في مصر في عهدها القديم، وفي مملكة بابل، وإسبارطة، وأثينا وروما، ففي هذه الحضارات كلها كان الفقراء يزدادون فقرا، والأغنياء يزدادون غنى.

عناية الأديان برعاية الفقراء

في الواقع الديانات كلها لم تغفل هذا الجانب الإنساني، ويتبين ذلك في سجل الشرائع لحمورابي وفي مصر القديمة، فقد كان الناس يشعرون أنه واجب ديني.

عناية الأديان السماوية

الأديان السماوية كانت دعوتها للبر بالفقراء أعمق أثرا من كل فلسفة بشرية، وإذا رجعنا للقرآن الكريم سنجده يتحدث عن ذلك في كثير من الآيات ومنها ما قاله على لسان عيسى في المهد: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) [مريم:31]، وإذا نظرنا إلى أسفار التوراة والإنجيل التي بين أيدينا الآن، نجدها تشتمل على كثير من الوصايا بالعطف على الفقراء.

ملاحظات على موقف الأديان من الفقر

  • أنها نماذج ترغب في الإحسان كدعوى للتصدق الاختياري، بهدف التقليل من آلامهم وليس حلا لمشكلة الفقر.
  • لم تتمتع بدرجة عالية من الإلزام، بحيث يشعر تاركها أنه سيعاقب من الله، كما أوكلت الدولة ذلك إلى ضمائرهم.
  • لم تحدد المال الذي تجب منه الصدقة ولا شروطه ولا مقدار الواجب فيه.

عناية الإسلام بعلاج الفقر

أما عناية الإسلام بعلاج الفقر فلم يسبق له نظير لا في ديانة سماوية، ولا في شريعة وضعية، وقد اعتنى القرآن بذلك منذ العهد المكي؛ منذ بزوغ فجر الإسلام في مكة، وحسبنا أن نقرأ في السور المكية هذه النماذج:

  • إطعام المسكين من لوازم الإيمان: ففي سورة المدثر تبين لنا أن من أسباب العذاب يوم القيامة إهمال حق المسكين. قال تعالى: ﴿وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾ [المدثر:44].
  • الحض على رعاية المسكين: ففي سورة الفجر خاطب الله أهل الجاهلية زاجرا لهم فقال: ﴿وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ [الفجر: 18].
  • حق السائل والمحروم والمسكين وابن السبيل: وقد جاء ذلك في صفات المؤمنين في سورة المعارج: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [المعارج:24-25]. والزكاة في مكة كانت زكاة مطلقة من القيود، وكانت موكلة لإيمان الأفراد وشعورهم بالواجب نحو إخوانهم من المؤمنين.

الزكاة في العهد المدني

أكد القرآن المدني وجوب الزكاة وبين بعض أحكامها، وتعد سورة التوبة نموذجا للقرآن المدني في العناية بالزكاة، ففي مطالع هذه السورة كان الكف عن قتال المشركين من شروطه إيتاء الزكاة المفروضة من أموال الأغنياء، وقد نبه العلماء على أن سنة القرآن أن يقرن الزكاة بالصلاة، قال عبد الله بن مسعود: "أمرتم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومن لم يزك فلا صلاة له".

 واشتملت سورة التوبة أيضا على بيان الأشخاص والجهات التي تصرف لها، وتوضح السورة كذلك أن الزكاة  أحد المقومات التي تميز المؤمنين عن المنافقين، وجاءت السنة بتأكيد ما جاء به القرآن من وجوب الزكاة، وحددت السنة أيضا نصب الزكاة ومقاديرها.

وتعد الزكاة ثالث دعائم الإسلام، وقد أكد النبي ﷺ أنها أحد الأركان الأساسية لهذا الدين، وقد أنذر الرسول ﷺ مانعي الزكاة بالعذاب الشديد في الاخرة، وهناك أيضا عقوبة شرعية لمانعي الزكاة يقوم بها الحاكم أو ولي الأمر وهي غرامة مالية، ولم يقف الإسلام في عقوبة مانعي الزكاة عند هذا الحد، بل أوجب قتال الممتنعين عن أداء الزكاة، وقد قرر العلماء أن من أنكر وجحد وجوب الزكاة فقد كفر.

فروق أساسية بين الزكاة في الإسلام والزكاة في الأديان الأخرى:

  • الزكاة الإسلامية هي ركن أساس من أركان الإسلام، وليست عملا تطوعيا.
  • الزكاة في الإسلام هي حق للفقراء في أموال الأغنياء، وليست امتنانا من الغني على الفقير.
  • أنها حق معلوم، لها شروط ووقت وطريقة أداء، ولها مقادير ونصب وحدود.
  • هذا الحق لم يوكل لضمائر الأفراد، وإنما حملت الدولة الإسلامية مسئوليته، فالزكاة ضريبة تؤخذ، وليست تبرعا يمنح.
  • من حق الدول معاقبة من يمتنع عن أداء هذه الفريضة، ومن حق أمير المسلمين أن يقاتل أي فئة ذات شوكة تمتنع عن أداء هذه الفريضة.
  • الفرد المسلم مطالب بأداء الفريضة وإن فرطت الدولة بالمطالبة بها، وقد حدد الإسلام مصارفها ومستحقيها.
  • الزكاة هدفها القضاء على الفقر، وليست معونة وقتية.

فقه الزكاة الجزء الأول
فقه الزكاة الجزء الأول
يوسف القرضاوي
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00