يقول ابن قيِّم الجوزيّة: كان النبيُّ محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم يتخيَّر في خِطابه، ويختارُ لأُمَّته أحسنَ الألفَاظ، وأجملها، وألطفها، وأبعَدها عن ألفاظ أهلِ الجفاء والغِلظة والفُحش، فلم يكن فاحشًا ولا متفحِّشًا ولا صَخَّابًا ولا فَظًّا.
وكان يكرهُ أن يُسْتَعْمَلَ اللفظُ الشريفُ المصونُ في حقِّ مَنْ ليس كذلك، وأن يُسْتَعمل اللفظُ المَهينُ المكروه في حقِّ مَن ليس مِن أهله.
فمِن الأوَّل منعهُ أن يُقال للمنافق: "يا سيِّدنا" وقال: "فإنَّه إنْ يكُ سَيِّدًا فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُم عَزَّ وَجَلَّ"، ومنعُه أن تُسمَّى شجرةُ العِنب كَرْمًا، ومنعُه تسمية أبي جهل بأبي الحَكَم، وكذلك تغييره لاسم أبى الحكم من الصحابة: بأبي شريح، وقال: "إنَّ الله هو الحكم، وإليه الحكمُ".
ومِن ذلك نهيُه للمملوك أن يقول لسيِّده أو لسيِّدته: ربِّي وَرَبَّتِي، وللسَّيِّدِ أن يقول لمملوكِهِ: عَبْدِي، ولَكِن يَقُولُ المالِكُ: فَتَايَ وفَتاتي، ويَقُولُ المملوكُ: سيِّدي وسيِّدتي، وقال لمن ادَّعى أنَّه طبيب: "أنْتَ رجلٌ رَفِيقٌ، وَطَبِيبُها الذي خَلَقَهَا"، والجاهِلون يُسمُّون الكافرَ الذي له عِلْمٌ بشيءٍ من الطبيعة حكيمًا، وهو مِن أسفه الخلق.
ومن هذا قولُه للخطيب الذي قال: "مَنْ يُطع اللهَ وَرَسُولَه فَقَدْ رَشَدَ، ومَنْ يَعْصِهِمَا فَقَد غَوَى: "بئسَ الخَطِيبُ أنْتَ".
ومن ذلك قولُه: "لا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ وشَاءَ فُلانٌ، وَلَكِن قُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ مَا شَاءَ فُلانٌ"، وقال له رجل: ما شَاءَ اللهُ وشِئْتَ، فَقَالَ: "أَجَعلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ قُل: مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ".
وفي معنى هذا الشرك المنهيّ عنه قولُ مَن لا يتوقَّى الشرك: أنا باللهِ وَبِكَ، وأنا في حَسْبِ اللهِ وحَسْبِكَ، وما لي إلَّا اللهُ وأنتَ، وأنا متوكِّل على الله وعليك، وهذا من اللهِ ومِنك، واللهُ لي في السماء وأنت لي في الأرض، وواللهِ وحياتِك، وأمثال هذا من الألفاظ التي يجعل فيها قائِلُهَا المخلوقَ نِدًّا للخالق، وهي أشدُّ منعًا وقُبْحًا من قوله: ما شَاءَ اللهُ وشئتَ.
فأمَّا إذا قال: أنا باللهِ، ثمَّ بك، وما شاء اللهُ، ثمَّ شئتَ، فلا بأس بذلك، كما في حديث الثلاثة: "لا بَلاغَ لي اليَوْمَ إلَّا بِاللهِ ثُمَّ بِكَ"، وكما في الحديث المتقدِّم الإذن أن يقال: ما شاء اللهُ ثمَّ شاءَ فلان.
وأمَّا القِسْمُ الثاني وهو أن تُطلق ألفاظُ الذمِّ على مَن ليس مِن أهلها، فمثلُ نهيه ﷺ عن سبِّ الدهرِ، وقال: "إنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ"، وفى حديث آخر: "يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يُؤْذِيني ابْنُ آدَمَ فَيَسُبُّ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهْرُ، بِيَدِي الأَمْرُ أَقلِّبُ اللَّيلَ والنَّهَارَ"، وفى حديث آخر: "لا يَقُولَنَّ أحَدُكُم: يا خَيْبَةَ الدَّهْرِ".
وفي هذا ثلاثُ مفاسد عظيمة؛ إحداها: سَبُّه مَنْ ليس بأهلٍ أن يُسَبَّ؛ فإنَّ الدهرَ خَلْقٌ مُسَخَّرٌ مِن خلق الله، منقادٌ لأمره، مذلَّلٌ لتسخيره، فسابُّه أولى بالذمِّ والسبِّ منه. والثانية: أنَّ سبَّه متضمِّن للشرك؛ فإنَّه إنَّما سبَّه لظنَّه أنَّه يضرُّ وينفع، وأنَّه مع ذلك ظالم قد ضرَّ مَن لا يستحقّ الضرر، وأعطى مَن لا يستحقُّ العطَاءَ، ورفع مَن لا يستحقُّ الرِّفعة، وحرم مَن لا يستحِقُّ الحِرمان، وهو عند شاتميه من أظلم الظلمة، وأشعارُ هؤلاء الظلمة الخونة في سبِّه كثيرةٌ جدًّا، وكثيرٌ من الجُهَّال يُصرِّح بلعنه وتقبيحِه.
والثالثة: أنَّ السبَّ منهم إنَّما يقعُ على مَن فعل هذه الأفعال التي لو اتَّبَعَ الحقُّ فيها أهواءَهم لفسدتِ السماواتُ والأرض، وإذا وقعت أهواؤُهم، حَمِدُوا الدهرَ، وأَثْنَوْا عليه. وفى حقيقةِ الأمر، فَربُّ الدهر تعالى هو المعطي المانِعُ، الخافِضُ الرافعُ، المعزُّ المذِلُّ، والدهرُ ليس له من الأمر شيءٌ، فمسبَّتهم للدهر مسبَّة للَّه عَزَّ وجَلَّ، ولهذا كانت مؤذيَةً للربِّ تعالَى، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة، عن النبيِّ ﷺ قال: "قالَ الله تَعالَى: يُؤْذِيني ابْنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ وأَنَا الدَّهْرُ"، فسابُّ الدهر دائر بين أمرين لا بدَّ له من أحدهما. إمَّا سبُّه لِلَّهِ، أو الشِّركُ به، فإنَّه إذا اعتقد أنَّ الدهر فاعل مع الله فهو مشرك، وإن اعتقد أنَّ الله وحده هو الذي فعل ذلك وهو يسبُّ مَن فعله، فقد سبَّ الله.
ومن هذا قولُه ﷺ: "لا يَقُولَنَّ أحَدُكُم: تَعِسَ الشَّيْطَانُ فَإنَّهُ يَتَعَاظَمُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ البَيْتِ، فَيَقُولُ: بِقُوَّتِي صَرَعْتُهُ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: بسْمِ اللهِ، فَإنَّهُ يَتَصَاغَرُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الذُّبَابِ". وفي حديث آخر: "إنَّ العَبْدَ إذَا لَعَنَ الشَّيْطَانَ يَقُولُ: إنَّكَ لَتَلْعَنُ مُلَعَّنًا".
ومثل هذا قولُ القائل: أخزى الله الشيطان وقبَّح اللهُ الشيطان، فإنَّ ذلك كلَّه يفرحه ويقول علم ابن آدم أنِّي قد نلته بقوَّتي، وذلك ممَّا يعينه على إغوائه، ولا يفيده شيئًا، فأرشد النبيُّ ﷺ من مسَّه شيءٌ من الشيطان أن يذكر الله تعالى، ويذكر اسمه، ويستعيذ بالله منه، فإنَّ ذلك أنفع له، وأغيظ للشيطان.
ومِن ذلك: نهيُه ﷺ أن يقولَ الرجل: "خَبُثَتْ نفسي، ولَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نفسي" ومعناهما واحد: أي: غَثَتْ نفسي، وساء خُلُقُها، فكره لهم لفظَ الخُبث لما فيه من القُبح والشنَاعة، وأرشدهم إلى استعمال الحسن، وهجران القبيح، وإبدالِ اللفظ المكروه بأحسن منه.
ومِن ذلك نهيه ﷺ عن قول القائل بعد فواتِ الأمر: "لَو أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا" وقال: "إنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ" وأرشده إلى ما هو أنفعُ له من هذه الكلمة، وهو أن يقول: "قَدَّرَ اللهُ ومَا شَاءَ فَعَلَ"؛ وذلك لأنَّ قوله: لو كنتُ فعلتُ كذا وكذا، لم يَفُتْنِي ما فاتني، أو لم أقع فيما وقعتُ فيه، كلامٌ لا يُجدى عليه فائدةً البتَّة؛ فإنَّه غيرُ مستقبِل لما استدبر من أمره، وغيرُ مستقِيل عَثْرَتَه بـ "لو"، وفى ضمن "لو" ادِّعاء أنَّ الأمر لو كان كما قدَّره في نفسه، لكان غيرَ ما قضاه الله وقدَّرَه وشاءه، فإنَّ ما وقع ممَّا يتمنَّى خلافَه إنَّما وقع بقضاء الله وقَدَرِه ومشيئته، فإذا قال: لو أنِّي فعلتُ كذا لكان خلافَ ما وقع فهو مُحال؛ إذ خلافُ المقدَّر المقْضيِّ مُحال، فقد تضمَّن كلامُه كذبًا وجهلًا ومُحالًا، وإن سَلِمَ من التكذيب بالقَدَر، لم يَسْلَم مِن معارضته بقوله: لو أنِّي فعلتُ كذا، لدفعتُ ما قَدَّر اللهُ عليَّ.