يقول الإمام ابن القيِّم: الهدايا والضحايا والعقيقة هي مختصّة بالأزواج الثمانيةِ المذكورةِ في سُورة "الأنعام" ولم يُعرف عنه ﷺ، ولا عن الصَّحابة هَدْي، ولا أُضحية، ولا عقيقةٌ مِن غيرها، وهذا مأخوذ من القرآن من مجموع أربع آيات:
إحداها: قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنعَامِ} [المائدة: 1].
والثانية: قولُه تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ في أيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحجّ: 28].
والثالثة: قولُه تعالى: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا، كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطَانِ، إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌ مُبِينٌ، ثَمَانِيَةَ أَزْوَاج} [الأنعام: 142- 142]، ثمَّ ذكرها.
الرابعة: قولُه تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الكَعْبَةِ} [المائدة: 95]. فدلَّ على أنَّ الذي يبلُغ الكعبةَ من الهَدْي هو هذه الأزواجُ الثمانية وهذا استنباطُ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
والذبائح التي هي قُرْبة إلى الله وعبادة؛ هي ثلاثة: الهَدْيُ، والأُضحية، والعقيقةُ.
فأهدى رسول الله ﷺ الغنَم، وأهدى الإبل، وأهدى عن نسائه البقرَ، وأهدى في مقامه، وفى عُمرته، وفى حَجَّته، وكانت سُنَّتُه تقليدَ الغنم دون إشعارها. وكان إذا بعث بهَدْيِه وهو مُقيم لم يَحْرُمْ عَلَيْهِ شيء كان مِنه حَلالًا.
وكان إذا أهدى الإبل، قلَّدها وأَشْعَرَها، فيشُقُّ صفحة سَنَامِها الأيمنِ يسيرًا حتَّى يَسيلَ الدم. قال الشافعيُّ: والإشعار في الصفحة اليمنى، كذلك أشعر النبيُّ ﷺ.
وكان إذا بعث بهَدْيهِ، أمرَ رسولَه إذا أشرف على عَطَبٍ شيءٌ منه أن يَنحره، ثمَّ يَصْبغَ نعلَه في دمه، ثمَّ يجعلَه على صفحته، ولا يأكل منه هو، ولا أحدٌ من أهل رفقته ثمَّ يقسِمُ لحمه، ومنعه من هذا الأكل سدًّا للذريعة؛ فإنَّه ربَّما قصَّر في حفظه ليُشارِفَ العطَب، فينحره، ويأكل منه، لكنّه إذا علم أنَّه لا يأكلُ منه شيئًا، اجتهَد في حفظه.
وشرَّك بين أصحابه في الهَدْي كما تقدَّم: البدنةُ عن سبعة، والبقرةُ كذلك. وأباح لسائق الهَدْي ركوبَه بالمعروف إذا احتاج إليه حتَّى يَجِدَ ظهرًا غيرَه وقال عليٌّ رضي الله عنه: يشربُ مِن لَبنها ما فضَل عن ولدها.
وكان هَديُه ﷺ نحرَ الإبل قيامًا، مقيَّدة، معقولَة اليُسرى، على ثلاث، وكان يُسمِّي اللهَ عِند نحره، ويُكبِّرُ، وكان يذبح نُسُكه بيده، وربَّما وكَّل في بعضه، كما أمر عليًّا رضي الله عنه أن يذبح ما بقي من المائة. وكان إذا ذبح الغنم، وضع قدَمه على صِفاحها ثمَّ سمَّى وكبَّر، وذبح، وقد تقدَّم أنَّه نحر بمِنَى وقال: "إنَّ فِجاجَ مَكَّةَ كُلَّهَا مَنْحَرٌ"، وقال ابنُ عبَّاس: مناحِرُ البُدن بمكَّة، ولكنَّها نُزِّهَتْ عن الدماء، ومِنَى مِن مكَّة، وكان ابنُ عبَّاس ينحرُ بمكَّة.
وأباحَ ﷺ لأُمَّتِه أن يأكُلوا من هَداياهم وضحاياهم، ويتزوَّدوا منها، ونهاهم مرَّةً أن يدَّخِروا منها بعد ثلاثٍ لدافَّةٍ دَفَّتْ عليهم ذلكَ العامَ مِن الناس، فأحبَّ أن يُوسِّعوا عليهم.
وذكر أبو دواد من حديث جُبير بن نفير، عن ثوبان قال: "ضَحَّى رسولُ اللهِ ﷺ ثمَّ قَالَ: "يا ثَوْبَانُ أَصْلِحْ لَنَا لَحْمَ هذِهِ الشَّاةِ"، قال: فَمَا زِلْتُ أُطْعِمُهُ مِنْهَا حَتَّى قَدِمَ المَدِينَةَ.
وكان رُبَّما قسم لُحوم الهَدْي، ورُبَّما قال: "مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ" فعل هذا، وفعل هذا، واستدلَّ بهذا على جواز النُّهبة في النِّثار في العُرس ونحوه، وفُرِّقَ بينهما بما لا يَتَبَّينُ.
وكان مِن هَدْيه ﷺ ذبحُ هَدْي العُمرة عند المروةِ، وهَدْيِ القِران بمِنَى، وكذلك كان ابنُ عمر يفعل، ولم ينحر هَدْيَه ﷺ قطُّ إلَّا بعد أن حَلَّ، ولم ينحره قبل يومِ النحر، ولا أحدٌ مِن الصحابة البتَّة، ولم ينحره أيضًا إلَّا بعد طُلوع الشمس، وبعد الرمي، فهي أربعة أُمور مرتَّبة يوم النحر؛ أوَّلها: الرمي، ثمَّ النَّحرُ، ثمَّ الحلقُ، ثمَّ الطوافُ، وهكذا رتَّبها ﷺ ولم يُرخِّص في النحر قبل طلوعِ الشمس البتَّة، ولا ريبَ أنَّ ذَلكَ مخالف لهَدْيِه، فحكمُه حكمُ الأُضحية إذا ذُبحت قبلَ طلوعِ الشمسِ.
وأمَّا هديه صلَّى الله عليه وسلَّم في الأضاحي فإنَّه ﷺ لم يكن يَدَعُ الأُضحية، وكان يُضَحِّي بكبشين، وكان ينحرُهما بعد صلاة العيد، وأخبر أنَّ: "مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَلَيْسَ مِنَ النُّسُكِ في شَيءٍ، وإنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ". هذا الذي دلَّت عليه سُنَّتُه وهَدْيُه، لا الاعتبارُ بوقت الصلاة والخطبة، بل بنَفس فِعلها، وهذا هو الذي ندينُ الله به، وأمرهم أن يَذبحوا الجَذَعَ مِن الضَّأْنِ والثَّنِيَّ مِمَّا سِوَاهُ، وهي المُسِنَّة.
وروي عنه أنَّه قَال: "كُلُّ أيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ" لكنَّ الحديثَ مُنقطعٌ لا يثبُت وصلُه.
وأمَّا نهيهُ عن ادِّخارِ لحومِ الأضاحي فوقَ ثلاثٍ، فلا يدُلَّ على أنَّ أيَّام الذبح ثلاثة فقط، لأنَّ الحديث دليل على نهي الذابح أن يدَّخِرَ شيئًا فوق ثلاثة أيَّام مِن يوم ذبحه، فلو أخَّر الذبح إلى اليوم الثالث، لجاز له الادِّخارُ وقتَ النهي ما بينه وبين ثلاثة أيَّام.
ومن هَدْيه ﷺ: أن مَن أراد التَّضحيةَ، ودخل يومُ العشر، فلا يأخُذْ مِن شعره وبشره شيئًا، ثبت النهي عن ذلك في صحيح مسلم وأمَّا الدارقطنيّ فقال: الصحيحُ عندي أنَّه موقوف على أُمِّ سلمة.
وكان مِن هَدْيه ﷺ اختيارُ الأُضحيةِ، واستحسانُها، وسلامُتها مِن العُيوب، ونهى أَنْ يُضَحَّى بِعَضْبَاءِ الأَذُنِ والقَرْنِ، أي: مقطوعة الأذن، ومكسورة القَرن، النصف فما زاد، ذكره أبو داود، وأمرَ أَنْ تُسْتَشْرَفَ العَيْنُ والأُذُنُ، أي: يُنظر إلى سلامتها، وأن لا يُضحَّى بِعَوْرَاءَ، ولا مُقابَلَة، ولا مُدَابَرَة، ولا شرقاءَ، ولا خَرْقَاءَ. والمُقَابَلَةُ: هي التي قُطِعَ مُقَدَّمُ أُذُنِها، والمُدَابَرَةُ: التي قُطِعَ مُؤَخَّرُ أُذُنِهَا، والشَّرُقَاءُ: التي شُقَّتْ أُذُنُها، والخَرْقَاءُ: التي خُرِقَتْ أُذُنُها. ذكره أبو داود.
وذكر عنه أيضًا: "أَرْبَعٌ لا تُجْزِئُ في الأَضَاحِي: العَوْرَاءُ البَيِّنُ عَوَرُهَا، والمَرِيضَةُ البَيِّنُ مَرَضُهَا، والعَرْجَاءُ البَيِّنُ عَرَجُهَا، والكَسيرَةُ التي لا تُنْقى، والعَجْفَاءُ التي لا تُنْقِي" أي: من هزالها لا مُخَّ فيها.
وذكر أيضًا أنَّ رسولَ الله ﷺ نهى عن المُصْفَرةِ، والمُسْتَأْصَلَةِ، والبَخْقَاء، والمُشَيَّعَةِ، والكَسْراء. فالمُصُفَرة: التي تُستأصل أذُنها حتى يَبْدُوَ صِمَاخُها، والمُستَأْصَلَةُ: التي استُؤصِلَ قَرْنُها مِنْ أَصْلِهِ، والبَخْقَاء: التي بخقت عينُها، والمشيَّعة: التي لا تتبع الغنم عَجَفًا وضَعْفًا، والكَسْرَاءُ: الكَسِيرة، والله أعلم.
وكان مِن هَدْيه ﷺ أن يُضحِّيَ بالمُصلَّى، ذكره أبو داود عن جابر أنَّه شَهِدَ معه الأضحى بالمصلَّى، فلمَّا قَضَى خُطبته نزل مِن منبره، وأُتي بِكَبْشٍ، فذبحه بيده وقال: "بِسْمِ الله، وَاللهُ أَكْبَرُ، هذَا عَنِّي وَعَمَّن لَمْ يُضَحِّ مِنْ أمَّتي" وفي الصحيحين أنَّ النبيّ ﷺ كان يَذْبَحُ وينحَرُ بالمصَلَّى.
وذكر أبو داود عنه: أنَّه ذبح يومَ النحر كبشيْنِ أقرنين أمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَينِ، فلما وجَّهَهُمَا قال: "وجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا، ومَا أَنَا مِنَ المُشْركِينَ، إنَّ صلاتي وَنسكي وَمحياي وَمماتي للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لا شَريكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أوَّلُ المُسْلِمِينَ، اللهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، بِسْمِ اللهِ، واللهُ أكْبَرُ" ثُمَّ ذَبَح.
وأمَر الناسَ إذا ذبحوا أن يُحسِنُوا الذبحة، وإذا قتلُوا أن يُحسِنوا القِتلة، وقال: "إن اللهَ كَتَبَ الإحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ".
وكان من هَدْيه ﷺ أنَّ الشاة تُجزِئُ عَنِ الرَّجُلِ، وعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ولو كَثُرَ عددُهم.
وسُئل رسولُ اللهِ ﷺ عَنِ العَقِيقَةِ، فقال: "لا أُحِبُّ العُقُوقَ" وكَأَنَّهُ كَرِهَ الاسْمَ، قَالُوا: "يَا رَسُولَ اللهِ؛ يَنْسُكُ أَحَدُنَا عَنْ وَلَدِهِ؟ فَقَالَ: "مَنْ أَحَبَّ مِنْكُم أنَ يَنْسُكَ عَنْ وَلَدِهِ، فَلْيَفْعَلْ: عَنِ الغُلام شَاتَانِ، وَعَنِ الجَارِيَةِ شَاة".