يقول ابن القيّم: اعتمر ﷺ بعدَ الهِجرة أرْبَعَ عُمَرٍ، كُلُّهُنَّ في ذي القعْدة، الأولى: عُمرةُ الحُديْبِيَة، وهي أولاهُنَّ سنةَ سِتٍّ، فصدَّه المشركون عن البيت، فنحرَ البُدْنَ حيثُ صُدَّ بالحُديبيةِ، وحَلَقَ هو وأصحابُه رؤوسهم، وحلُّوا من إحرامهم، ورجع مِن عامه إلى المدينة.
الثانية: عُمْرَةُ القَضِيَّةِ في العام المقبل، دخل مكَّة فأقام بها ثلاثًا، ثمَّ خَرَجَ بعد إكمال عُمرتِه.
الثالثة: عُمرتُه التي قرنها مع حَجَّتِه.
الرابعة: عُمرتُه من الجِعْرَانَةِ، لمَّا خرج إلى حُنين، ثمَّ رجع إلى مكَّة، فاعتمر مِن الجِعْرَانَةِ داخلًا إليها.
ولا خلاف أنَّ عُمَرَهُ لم تَزِد على أربع.
ولم يكن في عُمْرِهِ عُمْرَةٌ واحِدة خارجًا من مكَّة كما يفعلُ كثيرٌ من الناس اليوم، وإنَّما كانت عُمَرُهُ كُلُّها داخلًا إلى مكَّة، وقد أقام بعد الوحي بمكَّة ثلاث عشرة سنة لم يُنقل عنه أنَّه اعتمر خارجًا من مكَّة في تلك المدَّة أصلًا.
فالعُمْرة التي فعلها رسولُ الله ﷺ وشرعها، هي عُمْرةُ الداخل إلى مكَّة، لا عُمْرة مَن كان بها فيخرُج إلى الحلّ لِيعتمرَ، ولم يفعل هذا على عهده أحد قطُّ إلَّا عائشة وحدها بين سائر مَن كان معه؛ لأنَّها كانت قد أَهلَّت بالعُمرة فحاضت، فأمرها، فأدخلت الحجَّ على العُمرة، وصارت قارِنة، وأخبرها أنَّ طوافها بالبيت وبين الصفا والمروة قد وقع عن حجِّتها وعُمْرتها، فوجدت في نفسها أن يَرجعَ صواحباتها بحجٍّ وعُمْرة مستقلَّين، فإنَّهنَّ كنَّ متمتِّعات ولم يحضن ولم يقرِنَّ، وترجعُ هي بعُمْرة في ضمن حَجَّتها، فأمر أخاها أن يُعمِرَها من التنعيم تطييبًا لقلبها، ولم يعتمِرْ هو من التنعيم في تلك الحجَّة ولا أحد ممَّن كان معه.
وقد دخل رسول الله ﷺ مكَّة بعد الهجرة خمسَ مرّات سِوى المرّةِ الأولى، فإنَّه وصل إلى الحُديبية، وصُدَّ عن الدخول إليها، وأحرم في أربع مِنهنَّ مِن الميقات لا قبله، فأحرم عام الحُديبية من ذي الحُليفة، ثمَّ دخلها المرَّة الثانية، فقضى عُمْرته، وأقام بها ثلاثًا، ثمَّ خرج، ثمَّ دخلها في المرَّة الثالثة عامَ الفتح في رمضان بغير إحرام، ثمَّ خرج منها إلى حُنين، ثمَّ دخلها بعُمْرة من الجِعرانة ودخلها في هذه العُمْرة ليلًا، وخرج ليلًا، فلم يخرج من مكَّة إلى الجِعرانة ليعتمِر كما يفعلُ أهلُ مكَّة اليوم، وإنَّما أحرم منها في حال دخوله إلى مكَّة، ولمَّا قضى عُمْرته ليلًا، رجع من فوره إلى الجِعرانة، فبات بها، فلمَّا أصبح وزالتِ الشمسُ، خرج من بطن سَرِفَ حتَّى جامَع الطريق؛ ولهذا خفيت هذه العُمرة على كثير من الناس.
والمقصود أنَّ عُمَرَهُ صلى الله عليه وسلم كلَّها كانت في أشهر الحجِّ، مخالفةً لهَدْي المشركين، فإنَّهم كانوا يكرهون العُمْرة في أشهر الحجّ، ويقولون: هي من أفجر الفجُور، وهذا دليل على أنَّ الاعتمار في أشهر الحجِّ أفضلُ منه في رجب بلا شكٍّ.
وأمَّا المفاضلةُ بينه وبين الاعتمار في رمضان فموضع نظر، فقد صحَّ عنه أنَّه أمر أمَّ مَعقِل لمَّا فاتها الحجُّ معه، أن تعتمِرَ في رمضان، وأخبرها أَنَّ عُمْرَةً في رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّة.
وأيضًا: فقد اجتمع في عُمْرة رمضان أفضلُ الزمان، وأفضلُ البقاع، ولكنَّ الله لم يكن لِيختار لنبيه ﷺ في عُمَرِهِ إلَّا أولى الأوقات وأحقَّها بها، فكانت العُمْرةُ في أشهر الحجِّ نظيرَ وقوع الحجِّ في أشهره، وهذه الأشهر قد خصَّها الله تعالى بهذه العبادة، وجعلها وقتًا لها، والعمرةُ حجٌّ أصغر، فأولى الأزمنة بها أشهرُ الحجِّ، وذو القِعْدة أوسطُها.
ولم يُحفظ عنه ﷺ، أنَّه اعتمر في السنة إلَّا مرَّة واحدة، ولم يعتمِر في سنة مرَّتين، وقد ظنَّ بعضُ الناس أنَّه اعتمَرَ في سنة مرَّتين.
وفي قوله ﷺ: "العُمْرةُ إلى العُمْرةِ كفَّارةٌ لما بينهما، والحَجُّ المبرورُ ليس له جزاء إلَّا الجنَّة" دليلٌ على التفريق بين الحجِّ والعُمْرة في التكرار، وتنبيهٌ على ذلك؛ إذ لو كانت العمرةُ كالحجِّ لا تُفعل في السنة إلَّا مرَّة، لسوَّى بينهما ولم يُفرِّق.
ولا خلاف أنَّه لم يَحُجَّ بعد هجرته إلى المدينة سِوى حَجَّةٍ واحدة، وهي حَجَّة الوَداع، ولا خلاف أنَّها كانت سنةَ عشر.
ولمَّا نزل فرضُ الحجِّ بادر رسول الله ﷺ إلى الحجِّ من غير تأخير، فإنَّ فرضَ الحجِّ تأخَّر إلى سنة تسع أو عشر، وأمَّا قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فإنَّ الآية وإن نزلت سنةَ ستٍّ عام الحديبية، فليس فيها فرضيَّةُ الحجّ، وإنَّما فيها الأمرُ بإتمامه وإتمام العُمرة بعد الشروع فيهما، وذلك لا يقتضى وجوبَ الابتداء، فإن قيل: فَمِنْ أين لكم تأخير نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة؟ قيل: لأنَّ صدر سورةِ آل عمران نزل عامَ الوفود، وفيه قَدِم وفدُ نجران على رسول الله ﷺ، وصالحهم على أداءِ الجزية، والجزية إنَّما نزلت عامَ تبوك سنة تسع، وفيها نزل صدرُ سورة آل عمران، وناظرَ أهل الكتاب، ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة، ويدلُّ عليه أنَّ أهلَ مكَّة وجدوا في نفوسهم على ما فاتهم من التجارة مع المشركين لمَّا أنزل الله تعالى: {ياْ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُواْ المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]، فأعاضهم الله تعالى من ذلك بالجزية، ونزولُ هذه الآيات، والمناداةُ بها، إنَّما كان في سنة تسع، وبعث الصِّدِّيق يؤذِّن بذلك في مكَّة في مواسم الحجِّ، وأردفه بعليٍّ رضي الله عنه، وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السَلَف.
ولمَّا عزم رسول الله ﷺ على الحجِّ أعلم الناس أنَّه حاجٌّ، فتجهَّزوا للخروج معه، وسمِع ذلك مَنْ حول المدينة، فَقَدِمُوا يُريدون الحجَّ مع رسولِ الله ﷺ، ووافاه في الطريق خلائقُ لا يُحصَون، فكانُوا مِن بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله مدَّ البصر، وخرجَ من المدينة نهارًا بعد الظهر لِسِتٍّ بَقِينَ مِن ذي القِعْدةِ بعد أن صلَّى الظهرَ بها أربعًا، وخطبهم قبل ذلك خُطبةً علَّمهم فيها الإحرام وواجباتِه وسننه.
فصلَّى الظهر بالمدينة بالمسجد أربعًا، ثمَّ ترجَّل وادَّهن، ولبس إزاره ورداءه، وخرج بين الظهر والعصر، فنزل بذي الحُليفة، فصلَّى بها العصر ركعتين، ثمَّ بات بها وصلَّى بها المغرب، والعشاء، والصبح، والظهر، فصلَّى بها خمس صلوات، وكان نساؤه كُلُّهنَّ معه، وطاف عليهنَّ تِلك الليلة، فلمَّا أراد الإحرام، اغتسل غُسلًا ثانيًا لإحرامه غير غُسل الجِماع الأوَّل.
ويضيف الإمام ابن القيِّم قائلًا: غَلِط في عُمَر النبيِّ ﷺ خمسُ طوائف:
إحداها: مَن قال: إنَّه اعتمر في رجب، وهذا غلط، فإن عُمَرَهُ مضبوطةٌ محفوظة، لم يخرُج في رجب إلى شيءٍ منها البتَّة.
الثانية: مَن قال: إنَّه اعتمر في شوَّال، وهذا أيضًا وهم، والظاهر والله أعلم أنَّ بعضَ الرواة غَلِطَ في هذا، وأنَّه اعتكف في شوَّال فقال: اعتمر في شوَّال، لكن سياق الحديث، وقوله: "اعتمر رسول الله ﷺ ثلاث عُمَرٍ: عُمْرة في شوَّال، وعُمْرتين في ذي القِعْدَة" يدلُّ على أنَّ عائشة، أو مَنْ دونها، إنَّما قصد العُمْرة.
الثالثة: مَن قال: إنَّه اعتمر من التَّنعيم بعد حَجِّه، وهذا لم يقُلْه أحد من أهل العلم، وإنَّما يظنُّه العوامّ، ومن لا خِبرة له بالسُّنَّة.
الرابعة: مَن قال: إنَّه لم يعتمِرْ في حَجَّته أصلًا، والسُّنَّة الصحيحةُ المستفيضة التي لا يُمكن ردُّها تُبطِلُ هذا القول.
الخامسة: مَن قال: إنَّه اعتمر عُمْرة حلَّ منها، ثمَّ أحرم بعدها بالحجّ من مكَّة، والأحاديث الصحيحةُ تُبطِلُ هذا القول وتردُّه.
ووهم في حَجّه خمسُ طوائف:
الطائفة الأولى: التي قالت: حَجَّ حَجًّا مفردًا لم يعتمِرْ معه.
الثانية: مَن قال: حجَّ متمتِّعًا تمتُّعًا حلَّ منه، ثمَّ أحرم بعده بالحجِّ، كما قاله القاضي أبو يعلى وغيره.
الثالثة: مَن قال: حجَّ متمتِّعًا تمتُّعًا لم يَحِلَّ منه لأجل سَوْق الهَدْي، ولم يكن قارنًا، كما قاله أبو محمَّد بن قدامة صاحب "المغني" وغيره.
الرابعة: مَن قال: حجَّ قارنًا قِرانًا طاف له طوافين، وسعى له سعيين.
الخامسة: مَن قال: حجَّ حَجًّا مفردًا، واعتمر بعده من التنعيم.
وغلط في إحرامه خمسُ طوائف:
إحداها: مَن قال: لبَّى بالعُمرة وحدَها، واستمرَّ عليها.
الثانية: مَن قال: لبَّى بالحَجِّ وحده، واستمرَّ عليه.
الثالثة: مَن قال: لبَّى بالحَجِّ مُفردًا، ثمَّ أدخل عليه العُمْرة، وزعم أنَّ ذلك خاصٌّ به.
الرابعة: مَن قال: لبَّى بالعُمرة وحدها، ثمَّ أدخل عليها الحَج في ثاني الحال.
الخامسة: مَن قال: أحرم إحرامًا مطلقًا لم يعيِّن فيه نُسُكًا، ثم عيَّنه بعد إحرامه.