يقول الإمام ابن القيِّم: هَدْي النبيّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم في الزكاة، هو أكملُ هَدْي في وقتها، وقدْرِها، ونِصابها، وَمَنْ تَجِبُ عليه، ومَصْرِفِها. وقد راعى فيها مصلحةَ أربابِ الأموال، ومصلحة المساكين، وجعلها الله سبحانه وتعالى طُهرةً للمال ولصاحبه، وقيَّد النعمة بها على الأغنياء، فما زالت النعمةُ بالمال على مَن أدَّى زكاتَه، بل يحفظُه عليه ويُنمِّيه له، ويدفعُ عنه بها الآفاتِ، ويجعلُها سُورًا عليه، وحِصنًا له، وحارسًا له.
ثمَّ إنَّه جعلها في أربعة أصناف من المال؛ وهى أكثرُ الأموال دَوَرانًا بين الخلق، وحاجتُهم إليها ضروريّة.
أحدها: الزرع والثمار.
الثاني: بهيمةُ الأنعام: الإبل، والبقر، والغنم.
الثالث: الجوهران اللَّذان بهما قِوام العالم، وهما الذهب والفضَّة.
الرابع: أموالُ التجارة على اختلاف أنواعها.
ثمَّ إنَّه أوجبها مَرَّةً كلَّ عام، وجعل حَوْل الزروع والثمار عند كمالِها واستوائها، وهذا أعدلُ ما يكون؛ إذ وجوبُها كلَّ شهر أو كُلَّ جمعة يضُرُّ بأرباب الأموال، ووجوبُها في العمر مرّة ممَّا يضرُّ بالمساكين، فلم يكن أعدلَ مِن وجوبها كُلَّ عام مرّة.
ثمَّ إنَّه فاوَتَ بين مقادير الواجب بحسب سعي أرباب الأموال في تحصيلها، وسهولةِ ذلك، ومشقَّته، فأوجب الخُمس فيما صادفه الإنسان مجموعًا محصَّلًا من الأموال، وهو الرِّكاز. ولم يعتبر له حَوْلًا، بل أوجب فيه الخُمسَ متى ظفر به.
وأوجب نصفه وهو العُشر فيما كانت مشقَّةُ تحصيله وتعبه وكُلفته فوقَ ذلك، وذلك في الثمار والزروع التي يُباشر حرث أرضها وسقيها وبذرها، ويتولَّى الله سقيها مِن عنده بلا كُلفة من العبد، ولا شراء ماءٍ، ولا إثارة بئرٍ ودولابٍ.
وأوجب نِصف العُشر، فيما تولَّى العبد سقيَه بالكُلفة، والدوالي، والنواضِح وغيرها.
وأوجب نِصف ذلك، وهو ربعُ العُشر، فيما كان النَّماء فيه موقوفًا على عمل متَّصلٍ مِن ربِّ المال؛ بالضرب في الأرض تارة، وبالإدارة تارة، وبالتربُّص تارة، ولا ريبَ أنَّ كُلفة هذا أعظم من كُلفة الزرع والثمار، وأيضًا فإنَّ نموَّ الزرع والثمار أظهرُ وأكثر من نموِّ التجارة، فكان واجبُها أكثرَ من واجب التجارة، وظهورُ النموِّ فيما يُسقى بالسماء والأنهار أكثرُ ممَّا يُسقى بالدوالي والنواضح، وظهورهُ فيما وجد محصَّلًا مجموعًا، كالكنز، أكثر وأظهر من الجميع.
ثمَّ إنَّه لمَّا كان لا يحتمل المواساةَ كلُّ مال وإن قلَّ، جعل للمال الذي تحتمله المواساة نُصُبًا مقدَّرةً المواساة فيها، لا تُجْحِفُ بأرباب الأموال، وتقع موقِعها من المساكين، فجعل للوَرِقِ مئتي درهم، وللذهب عشرين مثقالًا، وللحبوبِ والثمار خمسةَ أوسق، وهي خمسة أحمال من أحمال إبل العرب، وللغنم أربعين شاة، وللبقر ثلاثين بقرة، وللإبل خمسًا، لكن لمَّا كان نِصابها لا يحتمل المواساة من جنسها؛ أوجب فيها شاة. فإذا تكرَّرت الخمس خمس مرَّات وصارت خمسًا وعشرين، احتمل نصابُها واحدًا منها، فكان هو الواجب.
ثمَّ إنَّه لمَّا قَدَّرَ سِنَّ هذا الواجب في الزيادة والنقصان، بحسب كثرة الإبل وقلَّتِها من ابن مَخاض، وبنت مَخاض، وفوقه ابنُ لَبُون، وبنت لَبون، وفوقه الحِقُّ والحِقَّة، وفوقَه الجَذَعُ والجَذَعَة، وكلَّما كثُرت الإبلُ، زاد السِّن إلى أن يصل السِّنُ إلى مُنتهاه، فحينئذٍ جعل زيادة عدد الواجب في مقابلة زيادة عدد المال؛ فاقتضت حكمته أن جعل في الأموال قَدْرًا يحتمل المواساة، ولا يُجحِفُ بها، ويكفي المساكين، ولا يحتاجُون معه إلى شيءٍ ، ففرض في أموال الأغنياء ما يكفى الفقراء، فوقع الظلمُ من الطائفتين؛ فالغنيُّ يمنعُ ما وجب عليه، والآخذ يأخذ ما لا يستحقُّه، فتولَّد من بين الطائفتين ضررٌ عظيم على المساكين وفاقةٌ شديدة، أوجبت لهم أنواع الحيل والإلحاف في المسألة.
والربُّ سبحانه تولَّى قَسْمَ الصدقة بنفسه، وجزَّأها ثمانيةَ أجزاء، يجمعُها صِنفانِ من الناس، أحدهما: مَن يأخذ لحاجة، فيأخذ بحسب شدَّة الحاجة، وضعفها، وكثرتِها، وقِلَّتها، وهم الفقراءُ والمساكين، وفى الرقاب، وابن السبيل. والثاني: مَن يأخذ لمنفعته وهم العاملون عليها، والمؤلَّفةُ قلوبُهم، والغارِمون لإصلاح ذاتِ البَيْن، والغُزاةُ في سبيل الله، فإن لم يكن الآخِذُ محتاجًا، ولا فيه منفعة للمسلمين، فلا سهم له في الزكاة.
أمَّا في من هو أهل لأخذ الزكاة فـكان من هَدْيه ﷺ إذا علم من الرجل أنَّه مِن أهل الزكاة أعطاه، وإن سأله أحدٌ من أهل الزكاة ولم يَعْرِفْ حاله، أعطاه بعد أن يخبره أنَّه لا حظَّ فيها لغنيٍّ ولا لقويٍّ مكتسِب، وكان يأخذها من أهلها، ويضعُها في حقَّها.
وكان من هَدْيه، تفريقُ الزكاة على المستحقِّين الذين في بلد المال، وما فضلَ عنهم حُمِلَت إليه، ففرَّقها هو ﷺ، ولذلك كان يبعث سُعاته إلى البوادي ، ولم يكن يبعثُهم إلى القُرى، بل أمر معاذَ بن جبل أن يأخذ الصدقة من أغنياء أهل اليمن، ويُعطيها فقراءهم، ولم يأمره بحملها إليه.
ولم يكن من هَدْيه أن يبعث سُعاته إلَّا إلى أهل الأموال الظاهرة مِن المواشي والزروع والثمار، وكان يبعثُ الخارِصَ- ومعنى الخرص عند الفقهاء يطلق على حرز ما على النخل من الرطب تمراً، وما على الشجر من العنب زبيبًا؛ لمعرفة مقدار الزكاة فيه- فيخرُصُ على أرباب النخيل تمرَ نخيلهم، وينظر كم يجئ منه وَسْقًا، فَيحْسِبُ عليهم من الزكاة بقدره.
وكان يأمر الخارِصَ أن يدعَ لهم الثلثَ أو الرُّبعَ، فلا يخرصه عليهم لما يعرُو النخيلَ مِن النوائب، وكان هذا الخرصُ لكى تُحصى الزكاةُ قبل أن تؤكل الثمارُ وتُصْرَمَ، وليتصرَّف فيها أربابها بما شاءوا، ويضمنوا قدرَ الزكاة، ولذلك كان يبعث الخارِصَ إلى مَن ساقاه من أهل خيبر وزارعه، فيخرُص عليهم الثمارَ والزروع، ويُضمِّنُهم شطرَها، وكان يبعثُ إليهم عبد الله بن رَواحة، فأرادوا أن يَرشُوه، فقال عبد الله: تُطعمونني السُّحتَ؟، واللهِ لقد جئتكم من عند أحبِّ الناس إليَّ، ولأنتُم أبغضُ إليَّ من عِدَّتِكم مِن القِردةِ والخنازير، ولا يحملني بُغضى لكم وحُبِّي إيَّاه، أن لا أعدل عليكم، فقالوا: بهذا قامت السمواتُ والأرض.
ولم يكن من هَدْيه أخذُ الزكاة من الخيل، والرقيق، ولا البغال، ولا الحمير، ولا الخضروات ولا المباطخ والمقاثي والفواكه التي لا تُكال ولا تُدَّخر إلَّا العنب والرُّطب فإنَّه كان يأخذ الزكاة منه جملة ولم يُفرِّق بين ما يبس منه وما لم ييبس.
واختلف عنه ﷺ في العسل، روى ابن ماجه في سننه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، أنّه أخَذَ مِن العَسَل العُشْرَ. وفي مسند الإمام أحمد، عن أبى سيَّارة المتعيّ ، قال: قلت: "يا رسول الله؛ إن لي نحلًا. قال: "أَدِّ العُشْرَ". قلتُ: يا رسول الله؛ احْمِها لي، فحماها لي".
واختلف أهلُ العلم في هذه الأحاديث وحكمها، فقال البخاريّ: ليس في زكاة العسل شيء يصحّ، وقال الترمذيّ: لا يَصِحُّ عن النبيّ ﷺ في هذا الباب كثيرُ شيء. وقال ابن المنذر: ليس في وجوب صدقة العسل حديث يثبت عن رسول الله ﷺ ولا إجماع، فلا زكاة فيه، وقال الشافعيّ: الحديثُ في أنَّ في العسل العُشرَ ضعيف.
وذهب أحمد، وأبو حنيفة، وجماعة، إلى أنَّ في العسل زكاة، ورأوا أنَّ هذه الآثار يُقَوِّي بعضُها بعضًا، وقد تعدَّدت مخارجُها، واختلفت طُرقها، ومرسَلُها يُعضَدُ بمسندها.
وكان ﷺ إذا جاءه الرجل بالزكاة، دعا له فتارة يقول: "اللهمَّ بارك فيه وفى إبلِهِ"، وتارة يقول: "اللهمَّ صلِّ عليه". ولم يكن من هديه أخذ كرائم الأموال في الزكاة بل وسط المال، ولهذا نهى معاذًا عن ذلك.
وكان ﷺ ينهى المتصدِّق أن يشتريَ صدقته، وكان يُبيح للغنيّ أن يأكل من الصدقة إذا أهداها إليه الفقير، وأكل ﷺ مِن لحم تُصُدِّقَ به على بَريرَةَ وقال: "هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ ولنا مِنْهَا هَدِية".
وكان أحيانًا يستدين لمصالح المسلمين على الصدقة، كما جهّز جيشًا فَنَفِدَتِ الإبل، فأمر عبد الله بن عمرو أن يأخذ من قلائص الصدقة، والقلائص جمع قلوص وهي الناقة الشابة.
وكان يَسِمُ إبل الصَّدَقَةِ بيده، وكان يَسِمُها في آذانها. وكان إذا عراه أمر، استسلف الصدقة من أربابها، كما استسلف من العباس رضي الله عنه صدقة عامين.
أمَّا فيما يخصّ صدقة التطوُّع فقد كان ﷺ أعظمَ الناس صدقةً بما ملكت يدُه، وكان لا يستكثِر شيئًا أعطاه للَّهِ تعالى، ولا يستقِلُّه، وكان لا يسألُه أحدٌ شيئًا عنده إلَّا أعطاه، قليلًا كان أو كثيرًا، وكان عطاؤه عطاء مَنْ لا يخافُ الفقر، وكان العطاءُ والصدقةُ أحبَّ شيءٍ إليه، وكان سُرورُه وفرحُه بما يعطيه أعظمَ من سرور الآخِذِ بما يأخذه، وكان أجودَ الناس بالخير، يمينه كالرِّيح المرسلة.
وكان إذا عرض له مُحتاج، آثره على نفسه؛ تارةً بطعامه، وتارةً بلباسه.
وكان يُنوِّع في أصناف عطائه وصدقته، فتارةً بالهبة، وتارةً بالصدقة، وتارةً بالهديَّة، وتارةً بشراءِ الشيء ثمَّ يُعطي البائع الثمن والسِّلعة جميعًا، كما فعل ببعير جابر وتارة كان يقترض الشيء، فيردّ أكثر منه، وأفضل وأكبر، ويشترى الشيء، فيعطي أكثر من ثمنه، ويقبل الهديَّة ويكافئ عليها بأكثر منها أو بأضعافها، تلطُّفًا وتنوُّعًا في ضروب الصدقة والإحسان بكلّ ممكن، وكانت صدقُته وإحسانُه بما يملكُه، وبحاله، وبقوله، فيُخْرِجُ ما عنده، ويأمُرُ بالصدقة، ويحضُّ عليها، ويدعو إليها بحاله وقوله، فإذا رآه البخيلُ الشحيح، دعاه حالُه إلى البذل والعطاء، وكان مَنْ خالطَه وصَحِبه، ورأى هَدْيَه لا يملِكُ نفسه من فرط السماحة والنَّدى.
وكان هَدْيه ﷺ يدعو إلى الإحسان والصدقةِ والمعروف، ولذلك كان ﷺ أشرحَ الخلق صدرًا، وأَطيَبهم نفسًا، وأنعمَهم قلبًا. فإنَّ لِلصدقة وَفِعلِ المعروف تأثيرًا عجيبًا في شرح الصدر، وانضاف ذلك إلى ما خصَّه الله بهِ من شرح صدره بالنبوَّة والرسالة، وخصائص هاتين المرتبتين العظيمتين وتوابعمها، وشرح صدره حسًّا وإخراج حظِّ الشيطان منه.