• إنّ المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحه وتلجم بلجامه، فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئا، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثارا لمحبة الله ومرضاته، وهو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه.

 

  • وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إسقاط القضاء عمن أكل وشرب ناسيا، وأن الله سبحانه هو الذي أطعمه وسقاه، فليس هذا الأكل والشرب يضاف إليه فيفطر به، فإنما يفطر بما فعله، وهذا بمنزلة أكله وشربه في نومه، إذ لا تكليف بفعل النائم، ولا بفعل الناسي.

 

  • قال صلى الله عليه وسلم: «كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويحلق رأسه ويسمى». قال الإمام أحمد: "معناه أنه محبوس عن الشفاعة في أبويه، والرهن في اللغة الحبس قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر ٣٨] ، وظاهر الحديث أنه رهينة في نفسه ممنوع محبوس عن خير يراد به، ولا يلزم من ذلك أن يعاقب على ذلك في الآخرة، وإن حبس بترك أبويه العقيقة عما يناله من عق عنه أبواه، وقد يفوت الولد خير بسبب تفريط الأبوين، وإن لم يكن من كسبه كما أنه عند الجماع إذا سمى أبوه لم يضر الشيطان ولده، وإذا ترك التسمية لم يحصل للولد هذا الحفظ. وأيضا، فإن هذا إنما يدل على أنها لازمة لا بد منها".

 

  • وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، يوم أحد، لما قيل لهم بعد انصرافهم من أحد: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: ١٧٣] فتجهزوا وخرجوا للقاء عدوهم، وأعطوهم الكيس من نفوسهم، ثم قالوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: ١٧٣] فأثرت الكلمة أثرها، واقتضت موجبها، ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: ٢] فجعل التوكل بعد التقوى الذي هو قيام الأسباب المأمور بها، فحينئذ إن توكل على الله، فهو حسبه، وكما قال في موضع آخر: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة: ١١] فالتوكل والحسب بدون قيام الأسباب المأمور بها عجز محض، فإن كان مشوبا بنوع من التوكل، فهو توكل عجز، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزا، ولا يجعل عجزه توكلا، بل يجعل توكله من جملة الأسباب المأمور بها التي لا يتم المقصود إلا بها.

 

  • قال بعض السلف: "من سرّه أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله"، فالقوة مضمونة للمتوكل، والكفاية والحسب والدفع عنه، وإنما ينقص عليه من ذلك بقدر ما ينقص من التقوى والتوكل، وإلا فمع تحققه بهما، لا بد أن يجعل الله له مخرجا من كل ما ضاق على الناس، ويكون الله حسبه وكافيه.

 

  • وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا بلغه أحد السلام عن غيره أن يرد عليه وعلى المبلغ، كما في "السنن:  «أن رجلا قال له: "إن أبي يقرئك السلام"، فقال له: "عليك وعلى أبيك السلام"».

 

  • وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:  «الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلا فارجع»، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر»، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أراد أن يفقأ عين الذي نظر إليه من جحر في حجرته،
    وصح عنه: التسليم قبل الاستئذان فعلا وتعليما، فقد استأذن عليه رجل فقال: "أألج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: "اخرج إلى هذا، فعلمه الاستئذان". فقال له: "قل: السلام عليكم، أأدخل؟" فسمعه الرجل، فقال: "السلام عليكم، أأدخل؟" فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل". 

 

  • وأما الاستئذان الذي أمر الله به المماليك، ومن لم يبلغ الحلم في العورات الثلاث: قبل الفجر، ووقت الظهيرة، وعند النوم، فكان ابن عباس يأمر به، ويقول: ترك الناس العمل بها، فقالت طائفة: الآية منسوخة ولم تأت بحجة. وقالت طائفة: أمر ندب وإرشاد، لا حتم وإيجاب، وليس معها ما يدل على صرف الأمر عن ظاهره، وقالت طائفة: المأمور بذلك النساء خاصة، وأما الرجال، فيستأذنون في جميع الأوقات، وهذا ظاهر البطلان، فإن جمع "الذين" لا يختص به المؤنث، وإن جاز إطلاقه عليهن مع الذكور تغليبا.

    وقالت طائفة عكس هذا: إن المأمور بذلك الرجال دون النساء، نظرا إلى لفظ " الذين" في الموضعين، ولكن سياق الآية يأباه فتأمله.

    وقالت طائفة: كان الأمر بالاستئذان في ذلك الوقت للحاجة، ثم زالت، والحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها.

 

  • هل تزول مشاركة الشيطان للآكلين بتسمية أحدهم؟

    وهاهنا مسألة تدعو الحاجة إليها، وهي أن الآكلين إذا كانوا جماعة، فسمى أحدهم، هل تزول مشاركة الشيطان لهم في طعامهم بتسميته وحده، أم لا تزول إلا بتسمية الجميع؟

فنص الشافعي على إجزاء تسمية الواحد عن الباقين، وجعله أصحابه كرد السلام، وتشميت العاطس، وقد يقال لا ترفع مشاركة الشيطان للآكل إلا بتسميته هو، ولا يكفيه تسمية غيره، ولهذا جاء في حديث حذيفة «إنا حضرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما، فجاءت جارية كأنما تدفع، فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها، ثم جاء أعرابي كأنما يدفع فأخذ بيده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان ليستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها، فأخذت بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده، والذي نفسي بيده، إن يده لفي يدي مع يديهما، ثم ذكر اسم الله وأكل» ، ولو كانت تسمية الواحد تكفي، لما وضع الشيطان يده في ذلك الطعام.

 

 


زاد المعاد في هدي خير العباد - الجزء الثاني
زاد المعاد في هدي خير العباد - الجزء الثاني
ابن قيم الجوزية
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00