يقول ابن القيّم: إنّ للصوم تأثيرٌ عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحِميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحَّتها، فالصومُ يحفظ على القلب والجوارح صحَّتها، ويُعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العونِ على التقوى كما قال تعالى: {يأَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
وقال النبيُّ ﷺ: "الصَّوْمُ جُنَّة"، أي سترة وحاجز من النار لمن صانه وحفظه. وأمَرَ صلى الله عليه وسلم مَنِ اشتدَّتْ عليه شَهوةُ النكاح، ولا قُدرة لَه عليه بالصِّيام، وجعله وجَاءَ هذه الشهوة.
والمقصود: أنَّ مصالحَ الصومِ لمَّا كانت مشهودةً بالعقول السليمةِ، والفِطَرِ المستقيمة، شرعه اللهُ لعباده رحمة بهم، وإحسانًا إليهم، وحِميةً لهم وجُنَّةً.
وكان هَدي رسول الله ﷺ فيه أكَملَ الهَدْي، وأعظمَ تحصيل للمقصود، وأسهلَه على النفوس.
وفُرض الصيام في السنة الثانية من الهجرة، فتوفِّي رسول الله ﷺ وقد صامَ تِسع رمضانات، وفُرِضَ أوَّلًا على وجه التخيير بينه وبين أن يُطعِم عن كُلِّ يوم مسكينًا، ثمَّ نُقِلَ مِن ذلك التخيير إلى تحتُّم الصومِ، وجعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة إذا لم يُطيقا الصيامَ، فإنَّهما يُفطِران ويُطعمان عن كُلِّ يوم مسكينًا، ورخَّص للمريض والمسافِر أن يُفطرا ويقضيا، ولِلحامِل والْمُرضِعِ إذا خافتا على أنفسهما كَذَلِكَ، فإن خافتا على ولديهما، زادتا مع القضاء إطعام مِسكين لِكُلِّ يوم، فإنَّ فطرهما لم يكن لِخوف مرض، وإنَّما كان مع الصِّحة، فجُبِر بإطعام المسكين كفطر الصحيح في أوَّل الإسلام.
وكان للصوم رُتَبٌ ثلاث؛ إحداها: إيجابُه بوصف التخيير، والثانية تحتُّمه، لكن كان الصائمُ إذا نام قبل أن يَطْعَمَ حَرُمَ عليه الطعامُ والشرابُ إلى الليلة القابلة، فنُسِخ ذلك بالرتبة الثالثة، وهي التي استقرّ عليها الشرعُ إلى يوم القيامة.
وكان من هَدْيه ﷺ في شهر رمضان، الإكثارُ من أنواع العبادات، فكان جبريلُ عليه الصلاة والسلام يُدارسه القرآن في رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجودَ بالخير من الريح المرسلة، وكان أجودَ الناس، وأجود ما يكون في رمضان، يُكْثِرُ فيه مِن الصدقة والإحسان، وتلاوة القرآن، والصلاة، والذِّكرِ، والاعتكاف.
وكان يَخُصُّ رمضانَ من العبادة بما لا يَخُصُّ غيرَه به من الشهور، حتى إنَّه كان ليُواصل فيه أحيانًا لِيُوَفِّرَ ساعات لَيلِهِ ونهارِه على العبادة، وكان ينهى أصحابَه عن الوصال، فيقولون له إنَّك تُواصل، فيقول: "لَسْتُ كَهَيْئَتِكُم إني أَبِيتُ" -وفى رواية: "إنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُني وَيَسْقِيني".
وكان من هَدْيه ﷺ أن لا يدخُل في صوم رمضان إلَّا بُرؤيةٍ محقَّقة، أو بشهادة شاهدٍ واحد، كما صام بشهادة ابن عمر، وصام مرّة بشهادة أعرابيّ، واعتمد على خبرهما، ولم يُكلِّفْهما لفظَ الشهادة. فإن كان ذلك إخبارًا، فقد اكتفى في رمضان بخبر الواحد، وإن كان شهادة، فلم يُكلِّف الشاهدَ لفظَ الشهادة، فإن لم تكن رؤيةٌ، ولا شهادةٌ، أكمل عِدَة شعبان ثلاثين يومًا.
وكان إذا حال ليلةَ الثلاثين دون منظره غيمٌ أو سحاب، أكمل عِدَّة شعبان ثلاثين يومًاً، ثمَّ صامه. ولم يكن يصوم يومَ الإغمام، ولا أمرَ به، بل أمر بأن تُكمَّل عِدة شعبان ثلاثين إذا غُمَّ، وكان يفعل كذلك، فهذا فعله، وهذا أمرُه.
وكان من هَدْيه ﷺ أمرُ الناس بالصَّوْمِ بشهادةِ الرجل الواحد المسلم، وخروجِهم منه بشهادة اثنين وكان من هَدْيه إذا شهد الشاهدان برؤية الهلال بعد خروج وقت العيد، أن يُفْطِرَ، ويأمرَهم بالفِطر، ويُصلِّي العيد من الغد في وقتها.
وكان يُعجِّلُ الفطر، ويحضُّ عليه، ويتسحَّرُ، ويحُثُّ على السّحور ويؤخِّرُه، ويُرغِّبُ في تأخيره.
وكان يحضُّ على الفطر بالتمر، فإن لم يجد، فعلى الماء، هذا من كمال شفقته على أُمَّته ونُصحِهم، فإنَّ إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خُلُوِّ المعدَة، أدعى إلى قبوله، وانتفاع القُوى به، ولا سيَّما القوَّةَ الباصرةَ؛ فإنَّها تقوى به، وحلاوةُ المدينة التمرُ، ومربَّاهم عليه، وهو عندهم قوتٌ، وأُدْمٌ، ورُطَبُه فاكهة. وأمَّا الماء، فإنَّ الكَبِدَ يحصُل لها بالصَّوْم نوعُ يبس، فإذا رطِّبت بالماء كمل انتفاعُها بالغذاء بعده، ولهذا كان الأولى بالظمآن الجائع، أن يبدأ قبل الأكل بشرب قليل من الماء، ثمَّ يأكُلَ بعده، هذا مع ما في التمر والماء من الخاصِّيَّة التي لها تأثير في صلاح القلب لا يعلمُها إلَّا أَطِبَّاءُ القلوب.
وكان ﷺ يُفْطِر قبل أن يُصلِّيَ، وكان فِطْرُه على رطبات إن وجدها، فإن لم يجدها، فعلى تمرات، فإن لم يجد، فعلى حسواتٍ من ماءٍ.
ويُذكر عنه ﷺ، أنَّه كان يقول عِند فطره: "اللهُمَّ لَك صمت وعلى رزقك أفطرت فتقبَّل منَّا إنَّك أنت السميع العليم" ولا يثبت.
وروي عنه أيضًا، أنَّه كان يقول: "اللهُمَّ لَكَ صُمْتُ وعَلَى رِزْقِكَ أفْطَرْتُ" ذكره أبو داود عن معاذ بن زهرة، أنَّه بلغه، أنَّ النبيّ ﷺ كان يقول ذلك.
وروي عنه، أنَّه كان يقول إذا أفطر: "ذَهَبَ الظَّمَأُ، وابْتَلَّتِ العُروقُ، وثَبَتَ الأجْرُ إن شاء الله تعالى" ذكره أبو داود من حديث الحسين بن واقد، عن ابن عمر.
ويُذكر عنه ﷺ: "إنَّ للصَّائم عِنْدَ فِطْرِه دَعْوَةً ما تُرَدُّ". رواه ابن ماجه.
وصحَّ عنه أنَّه قال: "إذا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهنا، وأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هاهنا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ". وفُسِّرَ بأَنَّه قد أفطر حكمًا، وإن لم ينوِه، وبأنَّه قد دخل وقتُ فِطره، كأصبح وأمسى، ونهى الصائِم عن الرَّفَث، والصَّخَب والسِّباب وجوابِ السِّباب، فأمره أن يقول لمن سابَّه: "إنِّي صائم"، فقيل: يقوله بلسانه وهو أظهرُ، وقيل: بقلبه تذكيرًا لنفسه بالصوم، وقيل: يقوله في الفرض بلسانه، وفى التطوُّع في نفسه؛ لأنَّه أبعد عن الرياء.
وسافر رسول الله ﷺ في رمضان، فصام وأفطر، وخيَّرَ الصحابة بين الأمرين. وكان يأمرهم بالفطر إذا دَنَوْا مِنْ عدوِّهم لِيتقوَّوْا على قتالِهِ. وسافر رسولُ الله ﷺ في رمضان في أعظم الغزواتِ وأجلّها في غَزَاة بدرٍ، وفى غَزَاة الفتح.
قال عمر بن الخطَّاب: "غزوْنَا مع رسولِ الله ﷺ في رمضان غزوتين: يَوْمَ بَدْرٍ، والفَتْحَ، فَأَفْطَرْنَا فيهِمَا".
ولم يكن من هَدْيه ﷺ تقديرُ المسافةِ التي يفطر فيها الصائِمُ بحَدٍّ، ولا صحَّ عنْهُ في ذَلِكَ شيء. وقد أفطر دِحيةُ بن خليفة الكَلْبِيّ في سَفَرِ ثلاثةِ أميال، وقالَ لمن صامَ: قد رَغِبُوا عَنْ هَدْي مُحَمَّدٍ ﷺ.
وكان الصحابة حين يُنشئون السَّفر، يُفطِرُون مِن غير اعتبار مجاوزةِ البُيوت، ويُخبرون أنَّ ذلك سُّنَّته وهَدْيُه ﷺ، كما قال عُبيد بن جَبْرٍ: ركِبْتُ مع أبى بَصرة الغفاريّ صاحب رسولِ الله ﷺ في سفينةٍ من الفُسْطَاطِ في رَمَضَانَ، فلم يُجَاوِزِ البُيُوتَ حَتَّى دَعَا بالسُّفْرَة. قال: "اقترِبْ، قلتُ: ألستَ ترى البيوتَ؟ قال أبو بصرة: أترغب عن سُّنَّةِ رسولِ الله ﷺ؟ رواه أبو داود وأحمد.
وكان مِن هَدْيه ﷺ أن يُدركه الفجر وهو جُنبٌ من أهله، فيغتسِلُ بعد الفجر ويصوم. وكان يُقبِّلُ بعض أزواجه وهو صائم في رمضان وشبَّه قُبلة الصائِم بالمضمضة بالماء. وكان من هَدْيه ﷺ: إسقاطُ القضاءِ عمَّن أكلَ وشرِب ناسيًا، وأنَّ الله سبحانه هو الذي أطعمه وسقاه، فليس هذا الأكلُ والشربُ يُضاف إليه فَيَفْطِرُ به؛ فإنَّما يُفْطِرُ بما فعله، وهذا بمنزلة أكلِهِ وشُربه في نومه، إذ لا تكليفَ بفعل النائم، ولا بفعل الناسي.
والذي صحَّ عنه ﷺ: أنَّ الذي يُفْطِرُ به الصَّائِمُ: الأكلُ، والشربُ، والحِجامة والقيء، والقرآن دالٌّ على أنَّ الجِماعَ مفطر كالأكل والشُّرب، لا يُعرف فيه خِلاف. ولا يَصِحُّ عنه في الكُحل شيء.
وقد صحَّ عنه أنَّه كان يستاك وهو صائم. وذكر الإمام أحمد عنه أنَّه كان يَصُبُّ المَاءَ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ صَائِمٌ.
وكان يتمضمض، ويستنشق وهو صائم. ومنع الصَّائِمَ مِن المُبالغةِ في الاستنشاق. ولا يَصِحُّ عنه أنَّه احتجَمَ وهو صائم، قاله الإمام أحمد.