مُقدّمة

يقول الإمام ابن القيِّم في مقدِّمة كتابه:

"بحسب متابعة الرسول تكونُ العزَّة والكفاية والنُّصرة، كما أنَّ بحسب متابعته تكونُ الهدايةُ والفلاح والنجاة، فالله سبحانه علَّق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شَقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن، والفلاحُ والعزَّة، والكفاية والنصرة، والوِلاية والتأييد، وطيبُ العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذِّلةُ والصَّغار، والخوفُ والضلال، والخِذلان والشقاءُ في الدنيا والآخرة".

وبحسب الأدلَّة الشرعيَّة من الكتاب والسُّنَّة يؤكِّد المؤلِّف على أنَّ العباد كلَّهم مضطرُّون فوقَ كلِّ ضرورة إلى معرفة الرسول، وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر، فإنَّه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا، ولا في الآخرة إلَّا على أيدي الرسل، ولا سبيلَ إلى معرفة الطيِّب والخبيث على التفصيل إلَّا مِن جهتهم، ولا يُنال رضى الله البتَّة إلَّا على أيديهم، فالطَّيِّب من الأعمال والأقوال والأخلاق، ليس إلَّا هديهم وما جاؤوا به".

فهم: "الميزانُ الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم تُوزن الأقوال والأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميَّز أهل الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظمُ مِن ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأيّ ضرورة وحاجة فُرِضَت، فضرورةُ العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير".

ثُمَّ يتساءل:

"ما ظنُّك بمن إذا غاب عنك هديُه وما جاء به طرفةَ عين، فسد قلبُك، وصار كالحوت إذا فارق الماء، ووضع في المِقلاة، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل، كهذه الحال، بل أعظمُ، ولكن لا يُحِسُّ بهذا إلَّا قلب حيٌّ ومَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلامُ".

فـ "إذا كانت سعادةُ العبد في الدارين معلَّقةً بهدي النبيّ ﷺ، فيجِب على كلَّ من نصح نفسه، وأحبَّ نجاتها وسعادتها، أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه مَا يَخْرُجُ به عن الجاهلين به، ويدخل به في عِداد أتباعه وشِيعته وحِزبه، والناس في هذا بين مستقِلّ، ومستكثِر، ومحروم، والفضلُ بيد الله يُؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم".

يقدِّم الإمام ابن القيِّم كتابه القيِّم لكلّ من يتصفَّحه ويقرأه قائلًا:
 
"هذه كلمات يسيرة لا يَستغني عن معرفتها مَنْ له أدنى همَّة إلى معرفة نبيِّه ﷺ وسيرتِه وهديه".
 
ثُمَّ يشير إلى الظروف التي أحاطت إخراجه هذا الكتاب النفيس، الذي ألَّفه وهو يعاني مشاقّ السفر حاجًّا من دمشق إلى مكَّة المكرَّمة، بالقول:
 
"اقتضاها الخاطِرُ المَكْدودُ على عُجَرِهِ وبُجَرِهِ مع البِضاعة المزجاة التي لا تنفتح لها أبوابُ السُّدَدِ، ولا يتنافس فيها المتنافسون مع تعليقها في حال السفر لا الإِقامة، والقلبُ بكلّ وادٍ منه شُعبة، والهمّة قد تفرَّقت شَذَرَ مَذَرَ، والكتاب مفقود، ومَنْ يفتح باب العلم لمذاكرته معدوم غيرُ موجود، فَعُودُ العلم النافع الكفيل بالسعادة قد أصبح ذاويًا، وربعه قد أوحش من أهله وعاد منهم خاليًا، فلسان العالم قد مُلِيءَ بالغلول مضاربةً لغلبة الجاهلين، وعادت موارِدُ شفائه وهي معاطبه لكثرة المنحرفين والمحرِّفين، فليس له مُعَوَّل إلَّا على الصبرِ الجميل، وما له ناصر ولا معين إلَّا الله وحده وهو حسبُنا ونعم الوكيل".
 
وإذا أردنا أن نجزِّئ الجزء الأوَّل إلى أجزاء رئيسة، وأن نضمّها بحسب الوحدة الموضوعيّة لعناوينها، فربَّما كان الأنسب عرضها كالتالي:
 

نسبه الشريف صلَّى الله عليه وسلَّم، وختانه وأمَّهاته اللاتي أرضعنه، وحواضنه، ثُمَّ فصول في أسمائه صلَّى الله عليه وسلَّم، وشرح معاني أسمائه، ثُمَّ يأتي  الإمام ابن القيِّم على فصول لذكر: أولاده صلَّى الله عليه وسلَّم، وأعمامه وعمَّاته، وأزواجه، وسراريّه. ثُمَّ فصول حول: مواليه، وخدَّامه

يتحدَّث الإمام عن النسب الشريف بالقول : "هو خير أهل الأرض نسبًا على الإِطلاق، فلنسبه من الشرف أعلى ذِرْوة، وأعداؤه كانوا يشهدون له بذلك؛ فأَشرف القوم قومُه، وأَشرف القبائل قبيلُه، وأَشرفُ الأفخاذ فخذه".
ويضيف : " فهو محمَّد بن عبد الله، بن عبد المُطَّلِب، بن هَاشِم، بن عَبدِ مَنَاف، بن قُصَيِّ، بنِ كِلاب، بنِ مُرَّة، بنِ كَعْبِ، بنِ لُؤَيّ، بنِ غَالِب، بنِ فِهْر، بنِ مَالِك، بنِ النَّضْرِ، بنِ كِنَانَة، بنِ خُزَيْمَة، بنِ مُدْرِكَة، بنِ إليَاس، بنِ مُضَرَ، بنِ نِزَار، بنِ مَعَدِّ، بنِ عَدْنَان. إلى هاهنا معلوم الصحَّة، متَّفق عليه بين النسَّابين، ولا خِلاف فيه البتَّة، وما فوق "عدنان" مختلف فيه. ولا خلاف بينهم أنَّ "عدنان" من ولد إسماعيل عليه السلام، وإسماعيل: هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم".
أمَّا عن مولده والعام الذي ولد فيه فيقول : "لا خلاف أنَّه ولد ﷺ بجوف مكَّة، وأنَّ مولده كان عامَ الفيل، وكان أمرُ الفيل تقدِمة قدَّمها الله لنبيِّه وبيته، وإلَّا فأصحاب الفيل كانوا نصارى أهل كِتاب، وكان دينهم خيرًا مِن دين أهل مكَّة إذ ذاك، لأَنَّهم كانوا عُبَّاد أوثان، فنصرهم الله على أهل الكِتاب نصرًا لا صنُع للبشر فيه، إرهاصًا وتقدِمة للنبيّ ﷺ الذي خرج من مكَّة، وتعظيمًا للبيت الحرام.
واختلف في وفاة أبيه عبد الله، هل توفِّي ورسول الله ﷺ حمل، أو توفِّي بعد ولادته؟ على قولين: أصحّهما: أنَّه توفِّي ورسول الله ﷺ حمل. والثاني: أنَّه توفِّي بعد ولادته بسبعة أشهر. ولا خلاف أنَّ أُمّه ماتت بين مكّة والمدينة "بالأبواء" منصرفها من المدينة مِن زيارة أخواله، ولم يستكمل إذ ذاك سبعَ سنين.
وَكَفَلَه جدّه عبد المطلب، وتُوفِّي ولِرسول الله ﷺ نحوُ ثَمانِ سنين، وقيل: ستّ، وقيل: عشر، ثُمَّ كَفَلَه عمُّه أبو طالب، واستمرَّت كفالتُه له، فلما بلغ ثِنتي عشرة سنة، خرج به عمُّه إلى الشام، وقيل: كانت سِنُّهُ تسعَ سنين، وفي هذه الخرجة رآه بَحِيرى الراهب، وأمر عمَّه ألا يَقْدَم به إلى الشام خوفًا عليه من اليهود، فبعثه عمُّه مع بعض غلمانه إلى مكّة، ووقع في كتاب الترمذيّ وغيره أنَّه بعث معه بلالًا، وهو من الغلط الواضح؛ فإن بلالًا إذ ذاك لعلّه لم يكن موجودًا، وإن كان، فلم يكن مع عمِّه، ولا مع أبي بكر. وذكر البزَّار في مسنده هذا الحديث، ولم يقل: وأرسل معه عمّه بلالًا، ولكن قال: رجلًا.
فلمَّا بلغ خمسًا وعشرين سنة، خرج إلى الشام في تجارة، فوصل إلى "بصرى" ثُمَّ رجع، فتزوَّج عَقِبَ رجوعه خديجة بنتَ خويلد. وقيل: تزوَّجها وله ثلاثون سنة. وقيل: إحدى وعشرون، وسنّها أربعون، وهي أوَّلُ امرأة تزوَّجها، وأوَّل امرأة ماتت من نسائه، ولم ينكح عليها غيرها، وأمره جبريلُ أن يقرأ عليها السلام من ربها".
 

مبعثه ﷺ وأوَّل ما نزل عليه، وترتيب الدعوة،  ثُمَّ ذكر الهجرتين الأولى والثانية

"بعثه الله على رأس أربعين، وهي سنُّ الكمال. قيل: ولها تبعث الرسل، وأمَّا ما يذكر عن المسيح أنَّه رُفعَ إلى السماء وله ثلاث وثلاثون سنة، فهذا لا يعرف له أثر متَّصل يجب المصير إليه".
"وأوَّل ما بدئ به رسول الله ﷺ من أمر النبوَّة الرؤيا، فكان لا يَرى رُؤيا إلَّا جاءتْ مِثْلَ فَلَقِ الصبُّح قيل: وكان ذلك ستّةَ أشهر، ومدّة النبوَّة ثلاث وعشرون سنة، فهذه الرؤيا جزء من ستّة وأربعين جزءًا من النبوَّة والله أعلم"، " ثُمَّ أكرمه الله تعالى بالنبوَّة، فجاءه المَلَك وهو بغار حِرَاءٍ، وكان يُحبّ الخلوة فيه".
ويقول ابن القيِّم عن بدأ البعثة ونزول الوحي على النبي محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم:  "حَبَّبَ اللهُ إليه الخلوة، والتعبّدَ لربّه، وكان يخلو بـ "غار حراء" يَتعَبَّدُ فيه الليالي ذواتِ العدد، وبُغِّضَتْ إليه الأوثان ودينُ قومه، فلم يكن شيء أبغضَ إليه من ذلك. فلمَّا كَمُلَ له أربعون، أشرق عليه نورُ النبوَّة، وأكرمه اللهُ تعالى برسالته، وبعثه إلى خلقه، واختصَّه بكرامته، وجعله أمينَه بينه وبين عباده".
ويضيف: "ولا خلاف أنَّ مبعثه ﷺ كان يومَ الاثنين، واختلف في شهر المبعث. فقيل: لثَمانٍ مضين من ربيع الأوَّل، سنة إحدى وأربعين من عام الفيل، هذا قولُ الأكثرين، وقيل: بل كان ذلك في رمضان، واحتجّ هؤلاء بقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِيَ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 45] قالوا: أوَّل ما أكرمه الله تعالى بنبوَّته، أنزل عليه القرآن، وإلى هذا ذهب جماعة".
"والأوَّلون قالوا: إنَّما كان إنزال القرآنِ في رمضان جملةً واحدةً في ليلة القدر إلى بيت العزَّة، ثُمَّ أُنزل مُنَجَّما بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة. وقيل: كان ابتداءُ المبعث في شهر رجب".
وكمَّل الله له من مراتب الوحي مراتبَ عديدة:
- إحداها: الرُّؤيا الصادقة، وكانت مبدأَ وحيه ﷺ، وكان لا يرى رؤيا إلَّا جاءت مثل فلق الصبح.
- الثانية: ما كان يُلقيه الملَكُ في رُوْعه وقلبه من غير أن يراه، كما قال النبيّ ﷺ: "إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعي أَنّه لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا في الطَّلَبِ، وَلا يَحْمِلَنّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ عَلَى أَن تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللهِ لا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ".
- الثالثة: أَنّه ﷺ كان يتمثَّلُ له المَلَكُ رجلًا، فيُخاطبه حتَّى يَعِيَ عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحيانًا.
- الرَّابعة: أَنّه كان يأتيه في مثل صَلْصَلَةِ الجرس، وكان أَشدَّه عليه فَيَتَلَبَّسُ به الملكُ حتَّى إنَّ جبينه ليتفصَّد عرقًا في اليوم الشديد البرد وحتَّى إنَّ راحلته لتَبْرُكُ به إلى الأرض إذا كان راكبها ولقد جاءه الوحيُ مرةً كذلك، وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتَّى كادت ترضُّها.
- الخامسة: أنه كان يَرَى المَلَكَ في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يُوحِيَه، وهذا وقع له مرَّتين، كما ذكر الله ذلك في سورة النَّجم [7، 13].
- السادسة: ما أوحاه الله وهو فوق السماواتِ ليلَة المعراج مِن فرض الصلاة وغيرها.
- السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة مَلَكٍ، كما كلّم اللهُ موسى بن عِمران، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعًا بنصّ القرآن، وثبوتها لنبيِّنا ﷺ هو في حديث الإِسراء.
 

زاد المعاد في هدي خير العباد - الجزء الأول
زاد المعاد في هدي خير العباد - الجزء الأول
ابن قيم الجوزية
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00