هديه صلَّى الله عليه وسلَّم في عيادة المرضى، وهديه في الجنائز والصلاة عليها واتِّباعها ودفنها وما كان يدعو به للميِّت في صلاة الجنازة وبعد الدفن وتوابع ذلك، ثُمَّ هديه في زيارة القبور
كان ﷺ يعودُ مَنْ مَرِضَ من أصحابه، وعاد غلامًا كان يَخدِمه مِن أهل الكتاب، وعاد عمَّه وهو مشرك، وعرض عليهما الإِسلام، فأسلم اليهوديّ، ولم يسلم عمُّه. وكان يدنو من المريض، ويجلِسُ عند رأسه، ويسألُه عن حاله، فيقول: كيف تجدُك؟
وذكر أنَّه كان يسأل المريضَ عمَّا يشتهيه، فيقول: "هَل تَشْتَهِي شَيئًا"؟" فإن اشتهى شيئًا وعلِم أنَّه لا يضرّه، أمر له به. وكان يمسح بيده اليُمنى على المريض، ويقول: "اللهُمَّ رَبَّ النَّاس، أَذْهِبِ البأْسَ، واشْفِه أَنتَ الشَّافي، لا شِفَاءَ إلا شِفاؤكَ، شِفاءً لا يُغادر سَقَمًا".
وكان يقول: "امسَح البَأسَ رَبَّ النَاس، بيَدكَ الشِّفَاءُ، لا كَاشفَ له إلَّا أنت". وكان يدعو للمريض ثلاثًا كما قاله لسعد: "اللهم اشْفِ سَعْدًا، اللهُمَّ اشْفِ سَعْدًا اللهُمَّ اشْفِ سَعْدًا". وكان إذا دخل على المريض يقول له: "لا بَأسَ طَهُورٌ إنْ شَاءَ الله".
وربَّما كان يقول: "كَفَّارَةٌ وَطَهورٌ" وكان يَرْقِي مَن به قرحة، أو جُرح، أو شكوى، فيضِع سبَابته بالأرض، ثُمَّ يرفعها ويقول: "بِسْمِ الله، تُرْبَةُ أرْضِنا، بِرِيقَةِ بَعضِنا يُشْفى سَقِيمُنَا، بإذْنِ رَبِّنا" هذا في الصحيحين.
ولم يكن مِن هديه عليه الصلاة والسلام أن يَخُصَّ يومًا من الأيَّام بعيادة المريض، ولا وقتًا من الأوقات، بل شرع لأمَّته عيادة المرضى ليلًا ونهارًا، وفي سائر الأوقات. وكان يعود من الرمد وغيره، وكان أحيانًا يضع يده على جبهة المريض، ثُمَّ يمسحُ صدره وبطنه ويقول: "اللهُمَّ اشْفِهِ" وكان يمسح وجهه أيضًا. وكان إذا يئس من المريض قال: "إنَّا للهِ وإنَّا إليه رَاجِعُون".
وكان هديُه ﷺ في الجنائز أكملَ الهدي، مخالفًا لهدي سائر الأمم، مشتمِلًا على الإِحسان إلى الميِّت ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده، وعلى الإِحسان إلى أهله وأقاربه، وعلى إقامة عبوديّة الحيّ لِلَّه وحدَه فيما يُعامل به الميِّت، وتجهيزه إلى الله على أحسن أحواله وأفضلِها، ووقوفه ووقوف أصحابه صفوفًا يحمَدون الله ويستغفرون له، ويسألون له المغفرةَ والرحمةَ والتجاوزَ عنه، ثُمَّ المشي بين يديه إلى أن يُودِعُوهُ حفرته، ثُمَّ يقوم هو وأصحابه بين يديه على قبره سائلين له التثبيت أحوجَ ما كان إليه، ثُمَّ يتعاهدُه بالزيارة له في قبره، والسلام عليه، والدعاء له كما يتعاهدُ الحيُّ صاحِبَه في دار الدنيا.
وأوَّل ذلك: تعاهدُه في مرضه، وتذكيرُه الآخرة، وأمرُه بالوصيّة، والتوبة، وأمرُ مَنْ حضره بتلقينه شهادة أنْ لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه، ثُمَّ النهي عن عادة الأمم التي لا تؤمِنُ بالبعث والنُّشور، مِن لطم الخدُود، وشقِّ الثياب، وحلقِ الرؤوس، ورفع الصوت بالنَّدب، والنِّياحة وتوابع ذلك. وسَنَّ الخشوعَ للميِّت، والبكاءَ الذي لا صوت معه، وحُزْنَ القلب، وكان يفعل ذلك ويقول: "تَدْمَعُ العينُ وَيَحْزَنُ القَلبُ وَلا نَقولُ إلا ما يُرضِي الرَّبَّ".
وسَنَّ لأمَّته الحمد والاسترجاعَ، والرضى عن الله، ولم يكن ذلك منافيًا لدمع العين وحُزنِ القلب، ولذلك كان أرضى الخلقِ عن الله في قضائه، وأعظمهم له حَمدًا، وبكى مع ذلك يوم موت ابنه إبراهيم رأفة به، ورحمة للولد، ورِقَّة عليه، والقلبُ ممتلئ بالرَضى عن الله عزَّ وجلَّ وشكره، واللسانُ مشتغل بذِكره وحمده.
وكان من هديه ﷺ الإِسراعُ بتجهيز الميِّت إلى الله، وتطهيره، وتنظيفِه، وتطييبه، وتكفيِنه في الثياب البيض، ثُمَّ يؤتى به إليه، فيُصلِّي عليه بعد أن كان يُدعى إلى الميِّت عند احتضاره، فيُقيم عنده حتَّى يقضي، ثُمَّ يحضر تجهيزه، ثُمَّ يُصلِّي عليه، ويشيِّعه إلى قبره، ثُمَّ رأى الصحابةُ أنَّ ذلك يشقُّ عليه، فكانوا إذا قضى الميِّتُ، دعوه، فحضر تجهيزه، وغسله، وتكفينَه. ثُمَّ رأوا أنَّ ذلك يشقُّ عليه، فكانوا هم يُجهِّزون ميَّتهم، ويحملونه إليه ﷺ على سريره، فيُصلِّي عليه خارِج المسجد.
ولم يكن من هديه الراتب الصلاةُ عليه في المسجد، وإنَّما كان يُصلِّي على الجنازة خارج المسجد، ورُبَّما كان يصلِّي أحيانًا على الميِّت في المسجد. وكان من هديه ﷺ تسجيةُ الميِّت إذا مات، وتغميضُ عينيه، وتغطيةُ وجهه وبدنه، وكان رُبَّما يُقبِّل الميِّت كما قبَّل عثُمَّانَ بن مظعون وبكى وكذلك الصِّدِّيقُ أكبَّ عليه، فقبَّله بعد موته ﷺ.
وكان يأمر بغسل الميِّت ثلاثًا أو خمسًا، أو أكثر بحسب ما يراه الغاسِل، ويأمر بالكافور في الغسلة الأخيرة، وكان لا يُغسَل الشهَداءَ قَتلَى المعركة، وذكر الإِمام أحمد، أنَّه نهى عن تغسيلهم، وكان ينزع عنهم الجلودَ والحديدَ ويَدفِنُهم في ثيابهم، ولم يُصلِّ عليهم. وكان إذا مات المُحرِمُ، أمر أن يُغسل بماء وسِدْر، ويُكفَّن في ثوبيه وهما ثوبا إحرامه: إزاره ورداؤه، وينهى عن تطييبه وتغطية رأسه وكان يأمر من ولي الميِّتَ أن يُحسن كفنه، ويُكفِّنه في البياض، وينهى عن المغالاة في الكفن، وكان إذا قصُرَ الكفنُ عن سَتر جميع البدن، غطَّى رأسه، وجعل على رجليه من العُشب.
وكان إذا قُدِّم إليه ميِّت يُصلِّي عليه، سأل: هل عليه دَين، أم لا؟ فإن لم يكن عليه دَين، صلَّى عليه، وإن كان عليه دين، لم يصلِّ عليه، وأذِن لأصحابه أن يُصلُّوا عليه، فإنَّ صلاته شفاعة، وشفاعتُه موجبة، والعبد مرتَهَنٌ بدَينه، ولا يدخل الجنَّة حتَّى يُقضى عنه، فلمَّا فتح الله عليه، كان يُصلِّي على المدِين، ويتحمَّل دينه، ويدع ماله لورثته.
وكان إذا أخذ في الصلاة عليه، كبَّر وحَمِدَ الله وَأَثنَى عَليْهِ، وصلَّى ابن عباس على جنازة، فقرأ بعد التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب جهرًا، وقال: "لِتَعْلَمُوا أنَّها سُنَّة" وكذلك قال أبو أُمامة بنُ سهل: إنَّ قراءة الفاتحة في الأولى سنَّة. ويُذكر عن النبيِّ ﷺ، أنَّه أمر أن يقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب. ولا يصحّ إسناده. قال شيخنا: لا تجب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، بل هي سنَّة.
ومقصودُ الصلاة على الجنازة: هو الدعاء للميِّت، لذلك حفظَ عن النبيِّ ﷺ، ونُقِلَ عنه ما لم يُنقل مِنْ قراءة الفاتِحة والصلاة عليه ﷺ. فحُفِظَ من دعائه: "اللهُمَّ اغفِرْ لَهُ، وارْحَمْهُ، وعَافِهِ، واعَفُ عَنهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَه، وَوَسِّعْ مَدْخَلَه، واغْسِلْهُ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ، ونَقِّهِ مَنَ الخطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِه، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وأَدْخِلْهُ الجَنةَ، وَأَعِذْهُ. مِن عَذَابِ القَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ النَارِ".
وحُفِظَ من دعائه: "اللهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا، وَمَيِّتِنَا، وَصَغِيرِنَا، وكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا، وأُنْثَانَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبنَا، اللهُمَّ مَنْ أَحيَيْتَهُ مِنَّا، فأَحْيهِ عَلَى الإِسْلام، وَمَنْ تَوفَّيْتَهُ مِنَّا، فَتَوَفَّه عَلَى الإِيمَانِ، اللهُمَّ لا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلا تَفتِنَّا بَعْدَهُ".
وحُفِظَ مِن دعائه: "اللهُمَّ إنَّ فُلانَ بْنَ فُلانٍ في ذِمَّتِكَ وَحَبْلِ جِوَارِكَ، فَقِهِ مَنْ فِتْنَةِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّار، فأَنْتَ أَهْلُ الوَفَاءِ وَالحَقِّ، فَاغفِرْ لَهُ وَارْحَمهُ، إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ".
وحُفِظَ مِن دعائه أيضًا: "اللهُمَّ أَنْتَ رَبُّهَا، وَأَنْتَ خَلَقْتَهَا، وَأَنتَ رَزَقْتَهَا، وأَنْتَ هَدَيْتَهَا للإِسْلامِ، وَأَنْتَ قَبضْتَ رُوحَهَا، وتَعْلَمُ سِرَّهَا وَعَلانِيَتَهَا، جئْنَا شفَعَاءَ فَاغفِرْ لَهَا".
وكان ﷺ يأمر بإخلاص الدعاء للميِّت، وكان يُكبرِّ أربعَ تكبيرات، وصحَّ عنه أنَّه كبَّر خمسًا، وكان الصحابة بعده يُكبِّرون أربعًا، وخمسًا، وستًّا، فكبَّر زيد بن أرقم خمسًا، وذكر أن النبيّ ﷺ كبَّرها، ذكره مسلم. وكان من هديه ﷺ، أنَّه لا يُصلِّي على مَن قتل نفسه، ولا على مَنْ غَلَّ من الغنيمةُ.
واختلف عنه في الصلاة على المقتُولِ حدًّا، كالزاني المرجوم، فصحَّ عنه أنَّه ﷺ صلَّى على الجهنيّة التي رجمها، فقال عمر: تُصلِّي عليها يا رسولَ الله وقد زَنَتْ؟ فقال: " لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لو قُسِمَتْ بين سَبْعِينَ مِن أهْلِ المَدِينَةِ لَوَسِعَتْهم، وهَل وَجَدْتَ تَوْبَةً أفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لله تعالى". ذكره مسلم.
وكان ﷺ إذا صلَّى على ميِّت، تبِعه إلى المقابر ماشيًا أمامه. وهذه كانت سنَّة خلفائه الراشدين مِن بعده، وسنَّ لمن تبعها إن كان راكبًا أن يكون وراءها، وإن كان ماشيًا أن يكون قريبًا منها، إمَّا خلفها، أو أمامها، أو عن يمينها، أو عن شمالها. وكان يأمر بالإِسراع بها، حتَّى إن كانوا ليَرمُلُون بها رَمَلًا، وأمَّا دبيب الناسِ اليومَ خُطوة خُطوة، فبدعة مكروهة مخالِفة للسنَّة، ومتضمِّنة للتشبُّه بأهل الكتاب اليهود. وكان أبو بكر يرفع السوطَ على من يفعل ذلك، ويقول: لقد رأيتنا ونحنُ مع رسول الله ﷺ نَرْمُلُ رملًا. وكان إذا تَبِعها لم يجلِسْ حتَّى تُوضع، وقال: "إذا تَبِعتُم الجِنَازَة، فلا تَجْلِسُوا حتَّى توضعَ ".
ولم يكن مِن هديه وسنَّته ﷺ الصلاة على كُلِّ ميِّت غائب؛ فقد مات خلق كثيرٌ من المسلمين وهم غُيَّب، فلم يُصلِّ عليهم، وصحَّ عنه: أنَّه صلَّى على النجاشيّ صلاته على الميِّت.
وصحَّ عنه ﷺ أنَّه قام للجنازة لمَّا مرَّت به، وأمرَ بالقيامِ لها، وصحَّ عنه أنَّه قعد، فاخْتُلِفَ في ذلك، فقيل: القيامُ منسوخ، والقعودُ آخر الأمرين، وقيل. بل الأمران جائزان، وفِعلُه بيان للاستحباب، وتركُه بيان للجواز، وهذا أولى من ادعاء النسخ.
وكان من هديه ﷺ، ألَّا يدفن الميِّت عند طلوع الشَّمس، ولا عند غروبِها، ولا حين يَقُوم قائمُ الظهيرة وكَانَ مِن هديه اللَّحدُ وتعميقُ القبر وتوسيعُه مِن عِند رأس الميِّت ورجليه، ويُذكرُ عنه، أنَّه كان إذا وضع الميِّتَ في القبر قال "بسْمِ اللهِ، وَبِاللهِ، وَعَلى مِلَّةِ رَسُولِ الله". وفي رواية: "بِسْم اللَهِ، وَفي سَبِيلِ اللهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ".
وكان إذا فرغ من دفن الميِّت قام على قبره هو وأصحابه، وسَأَلَ له التَّثبِيتَ، وأمَرَهُم أن يَسْأَلُوا لَهُ التَّثبِيتَ.
ولم يكن من هديه ﷺ، تعليةُ القبور ولا بناؤها بآجرّ، ولا بحجَر ولَبِن، ولا تشييدُها، ولا تطيينُها، ولا بناءُ القباب عليها، فكُلُّ هذا بدعة مكروهة، مخالفةٌ لهديه ﷺ وقد بَعثَ عليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه إليَ اليمن، ألَّا يَدَع تمْثالًا إلَّا طمَسَه، وَلا قَبْرًا مُشْرِفًا إلا سَوَّاه، فسنَّتُه ﷺ تسويةُ هذه القبور المُشرفة كلِّها، ونهى أن يُجصَّص القبرُ، وأن يُبنى عليه، وأن يكتبَ عليه. وكانت قبور أصحابه لا مُشرِفة، ولا لاطئة، وهكذا كان قبرُه الكريمُ، وقبرُ صاحبيه، فقبرُه ﷺ مُسَنَّم مَبْطوحٌ ببطحاء العرَصة الحمراء لا مبنيّ ولا مطيَّن، وهكذا كان قبر صاحبيه. وكان يعلم قبرَ مَنْ يريدُ تعرَّفَ قَبرِه بصخرة.
ونهى رسول الله ﷺ عن اتِّخاذ القبورِ مساجد، وإيقادِ السُّرج عليها، واشتدّ نهيه في ذلك حتَّى لعن فاعله، ونهى عن الصلاة إلى القُبور، ونهى أمَّته أن يتَّخِذوا قبرَه عيدًا، ولعن زوَّراتِ القبور وكان هديُهُ أن لا تُهان القبورُ وتُوطأ، وألَّا يُجلَس عليها، ويُتَّكأ عليها ولا تُعظَّم بحيث تُتَّخذُ مساجِدَ فيُصلَّى عندها وإليها، وتُتَّخذ أعيادًا وأوثانًا.