يتحدَّث الإمام ابن القيِّم عن هدي النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في يوم الجمعة، وقد أطال في ذكر خصائص هذا اليوم، فيقول: في صحيح مسلم عن أبي هريرة، وحُذيفة رضي الله عنهما قال رسول الله ﷺ: "أَضَلَّ اللهُ عَن الجُمُعة مَنْ كان قَبْلَنا، فَكانَ لِلْيَهُودِ السَّبْتِ، وكَانَ لِلنَّصارى يَوْمُ الأَحَدِ، فجاء اللهُ بِنَا، فَهَدَانَا ليومِ الجمعة فَجَعَلَ الجُمُعَةَ والسّبْتَ والأَحَدَ، وكَذلِكَ هُم تَبَعٌ لَنَا يَومَ القِيَامَةِ، نحن الآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنيا، والأَوَّلونَ يَوْمَ القِيامَةِ، المَقْضيُّ لهم قبل الخلائِق".
قَدم رسولُ الله ﷺ المدينة، فأقام بقُباء في بني عمرو بن عوف، كما قاله ابنُ إسحاق يوم الاثنين، ويومَ الثلاثاء، ويومَ الأربعاء، ويومَ الخميس، وأسَّس مسجدَهم، ثُمَّ خرج يومَ الجمعة، فأدركته الجمعةُ في بني سالم بن عوف، فصلَّاها في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانت أوَّل جمعة صلَّاها بالمدينة، وذلك قبل تأسيسِ مسجده.
قال ابن إسحاق: وكانت أوَّل خطبة خطبها رسولُ الله ﷺ. وكان من هديه ﷺ تعظيمُ هذا اليوم وتشريفه، وتخصيصه بعبادات يختصُّ بها عن غيره.
وقد اختلف العلماء: هل هو أفضلُ، أم يومُ عرفة؟ على قولين: هما وجهان لأصحاب الشافعيّ. وكان ﷺ يقرأ في فجره بسورتي (السجدة) و(الإنسان). فهذه خاصّة من خواصّ يوم الجمعة.
والخاصَّة الثانية: استحباب كثرة الصلاة فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ليلته، لقوله: «أكثِروا من الصلاة عليَّ يومَ الجمعة وليلةَ الجمعة».
والخاصَّة الثالثة: صلاة الجمعة التي هي من آكد فروض الإسلام، ومن أعظم مجامع المسلمين. وهي أعظم من كلِّ مجمع يجتمعون فيه وأفرضه سوى مجمع عرفة، ومن تركها تهاونًا بها طبع الله على قلبه.
والخاصَّة الرابعة: الأمر بالاغتسال في يومها، وهو أمرٌ مؤكَّد جدًّا، ووجوبه أقوى مِن وجوب الوتر، وقراءة البسملة في الصلاة.
والخاصَّة الخامسة: التطيُّب فيه، وهو أفضل من التطيُّب في غيره من أيَّام الأسبوع.
والخاصَّة السادسة: السِّواك فيه، وله مزيَّة على السواك في غيره.
والخاصَّة السابعة: التبكير للصلاة.
والخاصة الثامنة: أن يشتغل بالصلاة، والذكر، والقراءة حتَّى يخرج الإِمام.
والخاصَّة التاسعة: الإِنصات للخطبة إذا سمعها وجوبًا في أصحِّ القولين، فإن تركه، كان لاغيًا، ومن لغا، فلا جمعة له.
والخاصَّة العاشرة: قراءة سورة الكهف في يومها.
والحادية عشرة: أنَّه لا يُكره فعلُ الصلاة فيه وقتَ الزوال عند الشافعيّ رحمه الله ومن وافقه، وهو اختيار شيخنا أبي العباس بن تيميّة.
والثانية عشرة: قراءة (سورة الجمعة) و(المنافقين)، أو (سبّح) و(الغاشية) في صلاة الجمعة، فقد كان رسول الله ﷺ يقرأ بهنَّ في الجمعة، ذكره مسلم في صحيحه.
والثالثة عشرة: أنَّه يومُ عيد متكرِّر في الأسبوع، وهُوَ أَعْظَم عِنْدَ الله مِنْ يَوْمِ الأضْحَى، وَيَوْمِ الفِطْر، فيه خَمسُ خِلالٍ: خَلَقَ الله فيه آدم، وأَهْبَطَ فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفَّى الله آدم، وفيه ساعَةٌ لا يَسْأَلُ الله العَبدُ فيها شيئًا إلَّا أعطاه، ما لم يسأل حرامًا، وفيه تقومُ السَّاعَةُ، وما مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، ولا سماءٍ، ولا أرضٍ، وَلا رِيَاحٍ، ولا جِبالٍ، ولا شَجَرٍ إلَّا وهنّ يُشْفِقن مِنْ يَوْمِ الجمعة".
والرابعة عشرة: أنَّه يُستحبُّ أن يلبَس فيه أحسَنَ الثياب التي يقدِرُ عليها.
والخامسة عشرة: أنَّه يستحبُّ فيه تجميرُ المسجد، فقد ذكر سعيدُ بن منصور، عن نعيم بن عبد الله المُجمِر، أنَّ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أمر أن يجمَّرَ مسجدُ المدينة كُلَّ جمعة حين ينتصِف النهار.
والسادسة عشرة: أنَّه لا يجوز السفرُ في يومها لمن تلزمه الجمعة قبل فعلها بعد دخول وقتها، وأمَّا قبله، فللعلماء ثلاثةُ أقوال، وهي روايات منصوصات عن أحمد؛ أحدها: لا يجوز، والثاني: يجوز، والثالث: يجوز للجهاد خاصَّة.
والسابعة عشرة: أنَّ للماشي إلى الجمعة بكلِّ خُطوة أجرَ سنة صيامها وقيامها.
والثامنة عشرة: أنَّه يوم تكفير السيِّئات.
والتاسعة عشرة: أنَّ جهنم تسَجَّر كُلَّ يومٍ إلَّا يومَ الجمعة.
والعشرون: أنَّ فيه ساعةَ الإِجابة، وهي الساعة التي لا يسأل اللهَ عبدٌ مسلم فيها شيئًا إلَّا أعطاه.
والحادية والعشرون: أنَّ فيه صلاةَ الجمعة التي خُصَّت من بين سائر الصلوات المفروضات بخصائص لا توجد في غيرها من الاجتماع، والعدد المخصوص، واشتراط الإِقامة، والاستيطان، والجهر بالقراءة.
والثانية والعشرون: أنَّ فيه الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده، والشهادة له بالوحدانيّة، ولرسوله ﷺ بالرسالة، وتذكير العباد بأيّامه، وتحذيرهم من بأسه ونقمته، ووصيتهم بما يقرِّبهم إليه، وإلى جنانه، ونهيهم عمَّا يقربهم من سخطه وناره، فهذا هو مقصود الخطبة والاجتماع لها.
والثالثة والعشرون: أنَّه اليوم الذي يستحبُّ أن يتفرَّغ فيه للعبادة، وله على سائر الأيَّام مزيَّة بأنواع من العبادات واجبة ومستحبَّة.
والرابعة والعشرون: أنَّه لمَّا كان في الأسبوع كالعيد في العام، وكان العيد مشتملًا على صلاة وقربان، وكان يوم الجمعة يوم صلاة، جعل الله سبحانه التعجيلَ فيه إلى المسجد بدلًا من القربان، وقائمًا مقامه، فيجتمع للرائح فيه إلى المسجد الصلاةُ، والقربان.
والخامسة والعشرون: أنَّ للصدقة فيه مزيَّةً عليها في سائر الأيَّام، والصدقةُ فيه بالنسبة إلى سائر أيَّام الأسبوع كالصدقةِ في شهر رمضان بالنسبة إلى سائر الشهور. وشاهدتُ شيخَ الإِسلام ابن تيميّة قدَّس الله روحه، إذا خرج إلى الجمعة يأخذُ ما وجد في البيت من خبز أو غيره، فيتصدَّق به في طريقه سرًّا، وسمعته يقول: إذا كان الله قد أمرنا بالصدقة بين يدي مناجاة رسول الله ﷺ، فالصدقة بين يدي مناجاته تعالى أفضلُ وأولى بالفضيلة.
والسادسة والعشرون: أنَّه يوم يتجلَّى الله عزَّ وجلَّ فيه لأوليائه المؤمنين في الجنّة، وزيارتهم له، فيكون أقربُهم منهم أقربَهم من الإِمام، وأسبقهم إلى الزيارة أسبقَهم إلى الجمعة.
والسابعة والعشرون: أنَّه قد فُسِّرَ الشاهد الذي أقسم الله به في كتابه بيوم الجمعة، قال حُميد بن زنجويه: حدَّثنا عبد الله بن موسى، أنبأنا موسى بن عُبيدة، عن أيُّوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "اليَوْمُ المَوْعُودُ: يَوْمُ القِيَامَةِ، والْيَوْمُ المَشْهود: هو يَومُ عَرَفَة، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ، وَلا غَرَبَتْ عَلَى أَفْضَلَ مِن يَومِ الجُمُعَةِ، فِيهِ سَاعَةٌ لا يُوافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنِّ يَدْعُو اللهَ فيهَا بخَير إلَّا اسْتَجَابَ لَهُ، أَوْ يَسْتَعِيذُهُ منْ شَرٍّ إِلَّا أعَاذَ مِنْهُ".
والثامنة والعشرون: أنَّه اليوم الذي تفزع منه السماواتُ والأرضُ، والجبالُ والبحارُ، والخلائقُ كلُّها إلَّا الإِنسَ والجِنَّ.
والتاسعة والعشرون: أنَّه اليومُ الذي ادَّخره الله لهذه الأمة، وأضلَّ عنه أهلَ الكِتاب قبلهم.
والثلاثون: أنه خِيرة الله من أيَّام الأسبوع، كما أنَّ شهر رمضان خيرتُه من شهور العام، وليلة القدر خيرتُه من الليالي، ومكة خيرتُه مِن الأرض، ومحمَّد ﷺ خِيرتُه مِن خلقه.
والحادية والثلاثون: أنَّ الموتى تدنو أرواحُهم مِن قبورهم، وتُوافيها في يوم الجمعة، فيعرفون زُوَّارهم ومَن يَمُرُّ بهم، ويُسلِّم عليهم، ويلقاهم في ذلك اليوم أكثر من معرفتهم بهم في غيره من الأيَّام، فهو يوم تلتقي فيه الأحياء والأموات، فإذا قامت فيه الساعةُ، التقى الأوَّلون والآخِرون، وأهلُ الأرض وأهلُ السماء، والربُّ والعبدُ، والعاملُ وعمله، والمظلومُ وظالِمُه والشمسُ والقمرُ، ولم تلتقيا قبل ذلك قطُّ، وهو يومُ الجمع واللقاء، ولهذا يلتقي الناسُ فيه في الدنيا أكثَر من التقائهم في غيره، فهو يومُ التلاق.
والثانية والثلاثون: أنَّه يكره إفرادُ يوم الجمعة بالصوم.
والثالثة الثلاثون: أنَّه يوم اجتماع الناس وتذكيرهم بالمبدأ والمعاد.
وقد كان صلَّى الله عليه وسلَّم إذا خطب في النّاس، احمرَّت عيناه، وعلا صوتُه، واشتدَّ غضبُه حتَّى كأنَّه منذرُ جيش. وكان يقول في خطبته بعد التحميدِ والثناءِ والتشهُّد "أَمَّا بَعْدُ". وكان يُقصِّرُ الخُطبة، ويطيل الصلاة، ويكثر الذِّكر، ويَقْصدُ الكلماتِ الجوامع. وكان يُعَلِّمُ أصحابَه في خُطبته قواعِدَ الإِسلام، وشرائعَه، ويأمرهم، وينهاهم في خطبته إذا عَرَض له أمر، أو نهي، كما أمر الداخل وهو يخطب أن يُصلي ركعتين.