أمَّا عن نوم النبيِّ ﷺ وهديه وسيرته في نومه وانتباهه، فيقول المؤلِّف : كان ينامُ على الفراش تارة، وعلى النِّطع تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة، وعلى السرير تارة بين رِمَالهِ، وتارة على كِساء أسود. قال عبَّاد بن تميم عن عمّه: رأيتُ رسول الله ﷺ مُستلقيًا في المسجد واضعًا إحدى رِجليه على الأخرى.
وكان فراشه أَدَمًا حشوُه لِيف. وكان له مِسْحٌ ينام عليه يثنى بثَنيتين، وثُني له يومًا أربع ثنيات، فنهاهم عن ذلك وقال: "رُدُّوه إلَى حَالِهِ الأَوَّلِ، فَإنَّه مَنَعَنِي صَلاتِي اللَّيْلَة". والمقصود أنَّه نام على الفراش، وتغطَّى باللحاف. وكانت وسادتُه أَدَمًا حشوها ليف. وكان إذا أوى إلى فراشه للنوم قال: "بِاسمِك اللهُمَّ أَحْيَا وَأَموتُ".
وكان يجمع كفَّيْهِ ثُمَّ ينفُث فيهما، وكان يقرأ فيهما: {قُلْ هُو اللهُ أَحَدٌ} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثُمَّ يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأُ بهما على رأسه، ووجهه، وما أقبلَ مِنْ جسده، يفعل ذلك ثلاث مرَّات. وكان ينام على شِقه الأيمن، ويضع يده اليمنى تحت خدّه الأيمن، ثُمَّ يقول: "اللهُمَّ قِني عَذَابَكَ يَوْمَ تَبعَثُ عِبَادَكَ".
وكان يقول إذا أوى إلى فراشه: "الحمدُ للهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكَفَانَا وَآوَانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لا كَافِيَ له وَلا مُؤْويَ" ذكره مسلم.
وكان إذا استيقظ من منامه في الليل قال: "لا إلَه إِلَّا أَنْتَ سبحَانَكَ، اللهمَ إنِّي أستغْفِركَ لِذَنبِي، وَأَسْأَلُكَ رَحمَتَكَ، اللهُمَّ زِدْني عِلمًا، وَلا تُزِغ قَلبي بَعْدَ إِذ هَدَيتَني، وَهَبْ لي مِن لَدنكَ رَحْمَةَ، إِنَّكَ أَنتَ الْوَهاب".
وكان إذا انتبه من نومه قال: "الْحَمْدُ لله الَّذِيَ أَحيَانَا بَعدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النّشُور". ثُمَّ يتسوَّك، وربَّما قرأَ العشر الآيات من آخر (آل عمران).
وكان ينام أوَّل الليل، ويقوم آخره، وربَّما سهر أوَّل الليل في مصالح المسلمين، وكان تنامُ عيناه، ولا ينامُ قلبُه. وكان إذا نام، لم يُوقظوه حتَّى يكونَ هو الذي يستقيظ. وكان نومه أعدلَ النوم، وهو أنفع ما يكون من النوم، والأطبَّاء يقولون: هو ثلث الليل والنهار، ثمان ساعات.
أمَّا عن مشيه وركوبه فيذكر الإمام ابن القيِّم أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - "ركب الخيلَ والإِبل والبغال والحمير، وركب الفرس مُسْرَجَةً تارة، وَعَرِيَّا أخرى، وكان يُجريها في بعض الأحيان، وكان يركب وحده، وهو الأكثر، وربَّما أردف خلفه على البعير، وربَّما أردف خلفه، وأركب أمامه، وأردف بعضَ نسائه، وكان أكثرَ مراكبه الخيل والإِبل. وأمَّا البغال، فالمعروف أنَّه كان عنده منها بغلة واحدة أهداها له بعضُ الملوك، ولم تكن البغال مشهورة بأرض العرب، بل لمَّا أهديت له البغلة قيل: ألا نُنزي الخيل على الحمر؟ فقال: "إِنَّمَا يَفْعَلُ ذِلِكَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ".
وكان إذا مشى، تكفَّأ تكفُّؤًا، وكان أسرَعَ الناس مِشيةً، وأحسنَها وأسكنها قال أبو هريرة: ما رأيتُ أحدًا أسرع في مِشيته من رسول الله ﷺ، كأنَّما الأرضُ تُطوى له، وإنَّا لَنجْهَدُ أنفسَنا وإنَّه لغيرُ مُكْتَرِث. وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: كان رسولُ الله ﷺ إذا مشى تكفَّأ تكفُّؤًا كأنَّما ينحطُّ مِنْ صَبَبٍ، وقال مرَّة: إذا مشى، تقلّع قلتُ: والتقلُع: الارتفاعُ من الأرض بجملته، كحال المنحط من الصبب، وهي مِشية أولي العزم والهِمَّة والشجاعة، وهي أعدلُ المِشيات وأروحُها للأعضاء، وأبعدُها من مِشية الهَوَجِ والمهانة والتماوت، فإنَّ الماشيَ، إمَّا أن يتماوت في مشيه ويمشي قطعة واحدة، كأنَّه خشبة محمولة، وهي مِشية مذمومة قبيحة، وإمّا أن يمشي بانزعاج واضطراب مشي الجمل الأهوج، وهي مِشيةٌ مذمومة أيضًا، وهي دالَّة على خِفَّة عقل صاحبها، ولا سيَّما إن كان يُكثرُ الالتفات حال مشيه يمينًا وشمالًا، وإمّا أن يمشي هَوْنًا، وهي مِشية عبادِ الرحمن، كما وصفهم بها في كتابه، فقال: {وَعِبَادُ الرّحْمَنِ الّذِينَ يَمْشُونَ عَلَيَ الأرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]، قال غيرُ واحد من السلف: بسكينة ووقار من غير تكبُّر ولا تماوت، وهي مِشية رسول الله ﷺ.
وأمَّا مشيه مع أصحابه، فكانوا يمشون بين يديه وهو خلفهم، ويقول: "دعوا ظهري للملائكة" ولهذا جاء في الحديث: وكان يسوق أصحابه. وكان يمشي حافيًا ومتنعِّلًا، وكان يماشي أصحابه فرادى وجماعة، مشى في بعض غزواته مرَّة فدميت أصبعه، وسال منها الدم، فقال:
هل أنت أصبع دُميت … وفي سبيل الله ما لقيت
وكان يجلِس على الأرض، وعلى الحصير، والبِساط، وقالت قَيْلَةُ بنت مَخْرَمَة: أتيتُ رسول الله ﷺ وهو قاعد القُرفصاء، قالت: فلمَّا رأيتُ رسول الله ﷺ كالمتخشِّع في الجلِسة، أُرعِدتُ من الفَرَق. ولمَّا قدم عليه عديُّ بنُ حاتِم، دعاُه إلى منزله، فألقت إليه الجاريةُ وِسادة يجلِس عليها، فجعلها بينه وبين عديّ، وجلس على الأرض. قال عديّ: "فعرفتُ أنَّه ليس بمَلِك. وكان يستلقي أحيانًا، وربَّما وضع إحدى رجليه على الأخرى، وكان يتَّكئ على الوِسادة، وربَّما اتَّكأ على يساره، وربَّما اتَّكأ على يمينه. وكان إذا احتاج في خروجه، توكَّأ على بعض أصحابه من الضعف".
كان أحسنَ النَّاسِ مُعاملةً. وكان إذا استلف سلفًا قضى خيرًا منه. وكان إذا اسْتَسْلَفَ من رجل سَلَفًا، قضاه إيَّاه، ودعا له، فقال: "بَارَكَ اللهُ لَكَ في أَهلِكَ وَمَالِكَ، إنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الحَمْدُ والأداءُ".
وباع رسول الله ﷺ واشترى. وآجر، واستأجر، وشارك رسولُ اللهِ ﷺ، ولمَّا قدم عليه شريكهُ قال: "أما تَعرِفُني؟ قال: "أما كُنْتَ شَرِيكي؟ فَنِعْمَ الشَّرِيكُ كُنْتَ لا تدَارِي ولا تُمَارِي".
وأهدى، وَقَبِلَ الهدية، وأثاب عليها، ووهب، واتّهَبَ، فقال لسلمة بن الأكوع، وقد وقع في سهمه جارية: "هَبْهَا لِي" فوهَبَها له، فَفَادَى بها مِنْ أهْلِ مكّة أُسَارَى مِنَ المُسلمين. واستدان برهن، وبِغير رهن، واستعار، واشترى بالثَّمن الحالِّ والمؤجَّلِ".
وكان يُمازح، ويقول في مُزاحِه الحقّ، ويُوَرِّي، ولا يقول في توريته إلَّا بحقّ، مثل أن يُريد جهة يقصِدها فيسأل عن غيرها كيف طريقُها؟ وكيف مياهُها ومسلكها؟ أو نحو ذلك. وكان يُشير ويستشير. وكان يعود المريض ويشهدُ الجِنازة، ويُجيب الدَّعْوَة، ويمشي مع الأرملة والمسكين والضعيف في حوائجهم، وسمع مديحَ الشعر، وأثاب عليه.
وسابق رسولُ اللهِ ﷺ بنفسه على الأقدام، وصارعَ، وخَصَفَ نعله بيده، ورقَعَ ثوبه بيده، ورقَعَ دلوه، وحلب شاته، وَفَلَى ثوبَه، وخدم أهله ونفسه، وحمل معهم اللَّبِنَ في بناء المسجد، وربط على بطنه الحجر من الجوع تارة، وشبع تارة، وأضافَ وأضيفَ.