هديه صلَّى الله عليه وسلَّم في سفره وعبادته فيه

أمَّا عن هديه صلَّى الله عليه وسلَّم في سفره، فيقول ابن القيِّم : كانت أسفاره ﷺ دائرة بين أربعة أسفار: سفرِه لهجرته، وسفرِه للجهاد وهو أكثرها، وسفرِه للعمرة، وسفرِه للحج. وكان إذا أراد سفرًا، أقرع بين نسائه، فأيَّتُهُنَّ خرج سهمُها، سافر بها معه، ولمَّا حجّ، سافر بهنَّ جميعًا.
 
وكان إذا سافر، خرج مِن أوَّل النهار، وكان يستحِبُّ الخروجَ يوم الخميس، ودعا الله تبارك وتعالى أن يُبارك لأُمَّتِهِ في بُكورها. وكان إذا بعث سريّة أو جيشًا، بعثهم من أوَّل النهار، وأمرَ المسافرين إذا كانوا ثلاثة أن يؤمِّروا أحدهم. ونهى أن يُسافر الرجل وحدَه، وأخبر أنَّ: الراكِبَ شَيْطَانٌ، والرَّاكِبَينِ شَيْطَانَانِ، وَالثَّلاثَةُ رَكْب.
 
وذُكِرَ عنه أنَّه كان يقول حين ينهض للسفر: "اللَهُمَّ إلَيْك تَوَجَّهْتُ، وبِكَ اعْتَصَمْت، اللهُمَّ اكْفِني مَا أَهمَّني وَمَا لا أَهْتَمُّ بهِ، اللهُمَّ زَوِّدْني التَّقْوَى، وَاغْفِرْ لي ذَنْبِي، وَوَجِّهْنِي لِلخَيْرِ أَيَنَمَا تَوَجَّهْتُ".
 
وكان إذا قُدِّمتَ إليه دابَّتُه ليركبها، يقول: "بسم الله" حين يضع رجله في الرِّكاب، وإذا استوى على ظهرها، قال: الحمدُ لله الَذي سَخَّرَ لَنَا هَذا وَمَا كُنَّا لَهُ مقْرِنينَ وَإنَّا إِلَى رَبِّنَا لمنْقَلِبونَ، ثُمَّ يَقُولُ: الحَمْدُ لِلَّهِ، الحَمد لِلَّهِ، الحَمْدُ لِلَّهِ، ثُمَّ يقول: الله أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكبر، ثُمَّ يقولٌ: سُبْحَانَكَ إِنَيّ ظَلَمْتُ نَفْسِي، فَاغفِرِ لِي إِنَّه لا يَغْفر الذُنُوبَ إِلَّا أَنتَ" وكان يقول: "اللهمَّ إنَّا نَسْألُكَ في سَفَرِنَا هَذَا البِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ العَمَلِ مَا تَرْضَى، اللهُمَّ هَوِّن عَلَيْنَا سَفَرَنَا هذا، وَاطْوِ عَنَّا بُعدَهُ، اللهمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، وَالخَلِيفَةُ في الأَهْلِ، اللَهُمَّ إنيِّ أَعُوذُ بِكَ مِن وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ المنقَلَبِ، وَسوءِ المَنْظَرِ في الأَهلِ وَالمَالِ" وإذا رجع، قالهنَّ، وزاد فيهنَّ: "آيبون تَائِبُونَ عَابِدُون لِرَبِّنَا حَامِدُون".
 
وكان هو وأصحابُه إذا عَلَوا الثنايا، كبَّروا، وإذا هبطوا الأودية، سبَّحوا. وكان إذا أشرف على قرية يُريد دخولَها يقولُ "اللهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وما أظْلَلْنَ، وَرَبَّ الأَرضين السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ، وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وما أَضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَما ذَرَيْنَ، أَسْأَلُكَ خَيْرَ هذِه القَرْيَةِ وَخَيْرَ أهْلِهَا، وأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا".
 
وذكر عنه أنَّه كان يقول: "اللهُمَّ إِنِّي أسأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هذِهِ القَرْيَة وَخَيْرِ مَا جَمَعْتَ فِيهَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشرِّ مَا جَمَعْتَ فِيهَا، اللهُمّ ارزُقْنَا جَنَاهَا، وَأَعِذْنَا مِنْ وَبَاهَا، وَحَبِّبْنَا إِلَى أَهْلِهَا، وَحَبِّب صَالِحِي أَهْلِهَا إِلَيْنَا".
 
وكان يَقصُر الرُّبَاعية، فيصلِّيها ركعتين مِن حين يخرُج مسافرًا إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبُت عنه أنَّه أتمَّ الرُّباعيّة في سفره البتَّة. وكان رسول الله ﷺ يُواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين، ولم يُربِّع قطُّ إلَّا شيئًا فعله في بعض صلاة الخوف، كما سنذكره هناك، ونبيِّن ما فيه إن شاء الله تعالى. وقال أنس: خرجنا مع رسول الله ﷺ من المدينة إلى مكَّة، فكان يُصلِّي ركعتين ركعتين حتَّى رجَعْنَا إلى المدينة. متَّفق عليه.
 
ولمَّا بلغ عبد الله بن مسعود أنَّ عثُمَّانَ بن عفَّان صلَّى بمِنى أربعَ ركعات قال: إنَّا لله وإنَّا إليه راجِعون، صلَّيتُ مع رسول الله ﷺ بمِنَى ركعتين وصلَّيتُ مع أبي بكر بمِنى ركعتين، وصلَّيتُ مع عمر بن الخطاب بِمنَى ركعتين، فليت حظِّي مِن أربع رَكعاتٍ ركْعَتَانِ متقبَّلتَانِ. متَّفق عليه. ولم يكن ابنُ مسعود لِيسترجع مِن فعل عثمان أحد الجائزين المخيَّرِ بينهما، بل الأولى على قول، وإنَّما استرجع لما شاهده مِن مداومة النبيّ ﷺ وخُلفائه على صلاة ركعتين في السفر.
 
وكان من هديه ﷺ في سفره الاقتصارُ على الفرض، ولم يُحفظ عنه أنَّه صلَّى سُنَّة الصلاة قبلَها ولا بعدَها، إلَّا ما كان من الوِتر وسنَّة الفجر، فإنَّه لم يكن ليدعهما حَضرًا، ولا سفرًا. وكان من هديه ﷺ صلاةُ التطوُّع على راحلته حيث توجَّهت به، وكان يُومئ إيماءً برأسه في ركوعه، وسجوده، وسجودُه أخفضُ مِن ركوعه. وكان من هديه ﷺ أنَّه إذا ارتحل قبل أن تَزيغ الشمسُ، أخَّر الظهر إلى وقت العصر، ثُمَّ نزل، فجمع بينهما، فإن زالت الشمسُ قبل أن يَرتَحِلَ، صلَّى الظهر، ثُمَّ ركب. وكان إذا أعجله السيرُ، أخَّر المغربَ حتَّى يجمع بينها وبين العشاء في وقت العشاء. 
ولم يكن مِن هديه ﷺ الجمعُ راكبًا في سفره، كما يفعله كثير من الناس، ولا الجمع حال نزوله أيضًا، وإنَّما كان يجمع إذا جدَّ به السير، وإذا سار عقيبَ الصلاة، كما ذكرنا في قصَّة تبوك. ولم يحدَّ ﷺ لأمَّته مسافة محدودة للقصر والفطر، بل أطلق لهم ذلك في مُطلق السفر والضرب في الأرض، كما أطلق لهم التيمُّم في كلّ سفر، وأمَّا ما يُروى عنه من التحديد باليوم، أو اليومين، أو الثلاثة، فلم يصحّ عنه منها شيء البتَّة، والله أعلم.
 

هديه ﷺ في قراءة القرآن واستماعه، وخشوعه وبكائه عند قراءته واستماعه، وتحسين صوته به وتوابع ذلك

وأمَّا عن هديه صلَّى الله عليه وسلَّم في قراءة القرآن واستماعه وخشوعه وبكائه عند قراءته، فقد كان له ﷺ حِزب يقرؤه، ولا يُخِلُّ به، وكانت قراءتُه ترتيلًا لا هذًّا ولا عجلة، بل قِراءةً مفسَّرة حرفًا حرفًا. وكان يُقَطِّع قراءته آية آية، وكان يمدُّ عند حروف المدّ، فيمدّ (الرحمن) ويمدّ (الرحيم)، وكان يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم في أوَّل قراءته، فيقول: "أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَجِيم"، ورُبَّما كان يقول: "اللهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم من هَمْزِهِ ونَفْخِهِ، ونَفثِه". وكان تعوّذُه قبلَ القراءة.
 
وكان يُحبُّ أن يسمع القرآنَ مِن غيره، وأمر عبد الله بن مسعود، فقرأ عليه وهو يسمع. وخَشَع ﷺ لسماع القرآن مِنه، حتَّى ذرفت عيناه. وكان يقرأ القرآن قائمًا، وقاعدًا، ومضطجعًا ومتوضِّئًا، ومُحْدِثًا، ولم يكن يمنعه من قِراءته إلّا الجنابة.
 
وكان ﷺ يتغنَّى به، ويُرجِّع صوتَه به أحيانًا كما رجَّع يوم الفتح في قراءته: {إنَّا فتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]. وحكى عبد الله بن مغفَّل ترجِيعَه، آ آ آ ثلاث مرَّات، ذكره البخاريّ.
 
وإذا جمعت هذه الأحاديثَ إلى قوله: "زَيِّنُوا القُرآن بأصْواتِكُم"، وقوله: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآن"، وقوله: "ما أَذِنَ اللهُ لِشَيء، كأَذَنِهِ لِنَبيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالقُرْآن"؛ علمت أنَّ هذا الترجيعَ منه ﷺ كان اختيارًا لا اضطرارًا لهزِّ الناقة له؛ فإنَّ هذا لو كان لأجل هزِّ الناقة، لما كان داخلًا تحت الاختيار، فلم يكن عبدُ الله بن مغفَّل يحكيه ويفعلُه اختيارًا لِيُؤتسى به، وهو يرى هزَّ الراحلة له حتَّى ينقطع صوتُه، ثُمَّ يقول كان يُرجِّعُ في قراءته، فنسب التَّرجيع إلى فعله. ولو كان مِن هزِّ الراحلة، لم يكن منه فعل يسمَّى ترجيعًا.
 
وقد استمع ليلةً لقراءة أبي موسى الأشعريّ، فلمَّا أخبره بذلك، قال: لوْ كنتُ أعلم أنَّك تسمعه، لحبَّرْته لَكَ تَحْبِيرًا. أي: حسَّنته وزيَّنته بصوتي تزيينًا، وروى أبو داود في سننه عن عبد الجبَّار بن الورد، قال. سمعتُ ابنَ أبي مُليكة يقول: قال عبد الله بن أبي يزيد: مرَّ بنا أبو لُبابة، فاتَّبعناه حتَّى دخل بيته، فإذا رجلٌ رثُّ الهيئة، فسمعتُه يقول: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بالقرآنِ". قال: فقلت لابن أبي مُليكة: يا أبا محمَّد! أرأيتَ إذا لم يكن حسنَ الصوت؟ قال: يُحسِّنُه ما استطاع.
 
أمَّا قراءة الألحان فيقول ابن القيِّم : قالت طائفة: تكره قراءة الألحان، وممَّن نصَّ على ذلك أحمد ومالكٌ وغيرهما، فقال أحمد في رواية عليّ بن سعيد في قراءة الألحان: ما تعجبُني وهو محْدَث. وقال في رواية المروَزيّ: القراءةُ بالألحان بدعة لا تسمع، وقال في رواية عبد الرحمن المتطبّب: قراءةُ الألحان بدعة، وقال في رواية ابنه عبد الله، ويوسف بن موسى، ويعقوب بن بختان، والأثرم، وإبراهيم بن الحارث: القراءةُ بالألحان لا تُعجبني إلَّا أن يكون ذلك حُزنًا، فيقرأ بحزن مثلَ صوت أبي موسى، وقال في رواية صالح: "زَيِّنُوا القُرْآنَ بِأصْوَاتِكُم"، معناه: أن يُحسِّنه، وقال في رواية المروَزيّ: "ما أذِن الله لشيء كأذَنِهِ لنبيٍّ حسن الصوت أن يتغنَّى بالقرآن" وفي رواية قوله: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ"، فقال: كان ابنُ عيينة يقول: يستغني به. وقال الشافعيّ: يرفع صوته، وذكر له حديث معاوية بن قرّة في قصّة قراءة سورة الفتح والترجيع فيها، فأنكر أبو عبد الله أن يكون على معنى الألحان، وأنكر الأحاديثَ التي يُحتج بها في الرخصة في الألحان.
 
وروى ابن القاسم، عن مالك، أنَّه سئل عن الألحان في الصلاة، فقال: لا تُعجبني، وقال: إنَّما هو غناءٌ يتغنَّون به، ليأخذوا عليه الدراهم، وممَّن رُويت عنه الكراهةُ، أنس بن مالك، وسعيد بن المسيِّب، وسعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين، وإبراهيم النخعيّ.
 

زاد المعاد في هدي خير العباد - الجزء الأول
زاد المعاد في هدي خير العباد - الجزء الأول
ابن قيم الجوزية
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00