هديه صلَّى الله عليه وسلَّم في العبادات، وهديه في الوضوء، وهديه في المسح على الخفَّين، وهديه في التيمُّم، وهديه في الصلاة وقراءته فيها، ثُمَّ هديه في سجود السهو، وفصل فيما كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقوله بعد انصرافه من الصلاة وجلوسِه بعدها وسرعة الانتقال منها وما شرعه لأمَّته من الأذكار والقراءة بعدها

كان ﷺ يتوضَّأ لكلِّ صلاة في غالب أحيانه، وربَّما صلَّى الصلواتِ بوضوء واحد، وكان يتوضَّأ بالمُدّ تارة، وبثلثيه تارة، وبأزيَد منه تارة. وكان مِنْ أيسر النَّاس صبًّا لماء الوضوء، وكان يُحَذِّرُ أمَّته من الإِسراف فيه، وأخبر أنَّه يكون في أمَّته مَنْ يعتدي في الطهور، وقال: "إنَّ لِلْوُضُوءِ شَيْطَانًا يُقَالُ لَهُ الوَلهَان فَاتَّقُوا وَسْوَاسَ المَاء"، ومرَّ على سعد، وهو يتوضَّأ فقال له: "لا تُسْرِفْ في المَاء"، فقال: وهل فَي الماء من إسراف؟ قال: "نعم وإن كْنْتَ عَلَى نَهرٍ جَارٍ".

وصحَّ عنه أنَّه توضَّأ مرَّةً مرَّةً، ومرَّتين مرَّتين، وثلاثًا ثلاثًا، وفي بعض الأعضاء مرَّتين، وبعضها ثلاثًا. وكان يصل بين المضمضة والاستنشاق، فيأخُذ نصف الغرفة لفمه، ونصفها لأنفه. وكان يستنشق بيده اليمنى، ويستنثِر باليُسرى.

وَكُلُّ حديث في أذكار الوضوء الذي يقال عليه، فَكَذِبٌ مُخْتَلَق، لم يقُلْ رسولُ الله ﷺ شيئًا منه، ولا عَلَّمه لأمَّته، ولا ثبت عنه غير التسمية في أوَّله وقوله: "أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، واجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرينَ" في آخرِه وفي حديث آخر في سنن النسائيّ ممّا يقال بعد الوضوء أيضًا: "سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أشهد أنْ لا إله إلا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ".

ولم يكن رسول الله ﷺ يعتاد تنشيفَ أعضائه بعد الوضوء، ولا صحَّ عنه في ذلك حديث البتَّة، بل الذي صحَّ عنه خلافه. وكان يخلِّل لحيته أحيانًا، ولم يكن يُواظبُ على ذلك. وكذلك تخليلُ الأصابع لم يكن يُحافظ عليه. وكان يمسح ظاهر الخفَّين، ولم يصحّ عنه مسحُ أسفلهما إلَّا في حديث منقطع والأحاديث الصحيحة على خلافه، ومسح على الجوربين والنعلين، ومسح على العِمامة مقتصِرًا عليها، ومع الناصية، وثبت عنه ذلك فعلًا وأمرًا في عدَّة أحاديث.

وكان ﷺ يتيمَّم بضربة واحدة للوجه والكفَّين، ولم يَصِحَّ عنه أنَّه تيمَّم بضربتين، ولا إلى المرفقين.

وكان ﷺ إذا قام إلى الصلاة قال: "اللهُ أَكْبَرُ" ولم يقل شيئًا قبلها ولا تلفَّظ بالنيَّة البتَّة، ولا قال: أصلِّي للَّهِ صلاة كذا مُستقبِلَ القبلة أربعَ ركعات إمامًا أو مأمومًا، ولا قال: أداءً ولا قضاءً، ولا فرض الوقت، وهذه عشرُ بدع. 

وكان يقرأ في الفجر بنحو ستِّين آية إلى مائة آية، وصلَّاها بسورة (ق)، وصلَّاها بـ (الروم) وصلَّاها بـ (إذَا الشَّمسُ كُوِّرَت) وصلَّاها بـ (إِذَا زُلْزِلَتْ) في الركعتين كلتيهما، وصلَّاها بـ (المعوِّذَتَيْنِ)، وكان في السفر وصلَّاها فافتتح بـ (سورة المؤْمِنِين) حتَّى إذا بلغ ذكر موسى وهارون في الركعة الأولى أخذته سَعْلَةٌ فركع.

وأمَّا الظهر، فكان يُطيل قراءتَها أحيانًا، حتَّى قال أبو سعيد: "كانت صلاةُ الظهر تُقام، فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثُمَّ يأتي أهله، فيتوضَّأ، ويدرك النبيّ ﷺ في الركعة الأولى ممّا يطيلُها" رواه مسلم. وكان يقرأ فيها تارة بقدر (ألم تنزيل) وتارة بـ (سبِّح اسم ربِّك الأعلى) و(الليل إذا يغشى) وتارة بـ (السماء ذات البروج) و(السماء والطارق).

وأمَّا العصر، فعلى النصف مِن قراءة صلاة الظهر إذا طالت، وبقدرها إذا قصُرت.

وأمَّا المغرب، فكان هديُه فيها خلافَ عمل الناس اليوم، فإنَّه صلَّاها مرَّة بـ (الأعراف) فرَّقها في الركعتين، ومرَّة بـ (الطور) ومرَّة بـ (المرسلات).

وأما عشاء الآخرة, فقرأ صلى الله عليه وسلم فيها بـ (التين)، ووقَّت لمعاذ فيها (الشمس) و (الأعلى) و (الليل) ونحوها.

وكان ﷺ لا يعيِّن سورة في الصلاة بعينها لا يقرأ إلَّا بها إلَّا في الجمعة والعيدين، وأمّا في سائر الصلوات، فقد ذكر أبو داود من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه أنَّه قال: مَا منَ المفصَّلِ سورةٌ صغيرةٌ ولا كبيرةٌ إلَّا وقد سمِعتُ رسولَ الله ﷺ يَؤمُّ الناسَ بها في الصَّلاةِ المَكْتُوبةِ.

وكان من هديه قراءة السورة كاملة، وربَّما قرأها في الركعتين، وربَّما قرأ أوَّل السورة. وأمَّا قراءة أواخر السور وأوساطِها، فلم يُحفظ عنه. وأمَّا قراءةُ السورتين في ركعة، فكان يفعله في النافلة، وأمَّا في الفرض، فلم يُحفظ عنه.

وكان دائمًا يُقيم صُلبه إذا رفع من الركوع، وبينَ السجدتين، ويقول "لا تُجْزِئ صلاةٌ لا يُقِيمُ فِيهَا الرَّجُلُ صُلْبَهُ في الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ" ذكره ابن خزيمة في صحيحه. وكان من هديه إطالةُ هذا الركن بقدر الركوعِ والسجود.

وأمر بالاجتهاد في الدعاء في السجود وقال: "إِنَّهُ قَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ".

وكان يُصلِّي الفرض وهو حاملٌ أمامة بنت أبي العاص بن الربيع ابنةَ بنته زينب على عاتقه، إذا قام، حملها، وإذا ركع وسجد، وضعها. وكان يصلِّي فيجيء الحسنُ أو الحسين فيركبُ ظهره فيُطيل السجدة، كَراهية أن يُلقيَه عن ظهره. وكان يُصلِّي، فتجيء عائشةُ مِن حاجتها والبابُ مُغلَق، فيمشي، فيفتح لها البابَ، ثُمَّ يرجِعُ إلى الصلاة.

وكان يَرُدُ السلام بالإِشارة على من يُسلِّم عليه وهو في الصلاة وقال جابر: بعثني رسولُ الله ﷺ لحاجة، ثُمَّ أدركتُهُ وهو يصلِّي، فسلَّمتُ عليه، فأشار إليَّ. ذكره مسلم في صحيحه. وقال أنس رضي الله عنه: كان النبيُّ ﷺ يُشير في الصلاة، ذكره الإِمام أحمد رحمه الله. وقال صُهيب: مررتُ برسول الله ﷺ وهو يُصلِّي، فسلَّمتُ عليه، فردَّ إشارة.

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لما قَدِمتُ من الحبشة أتيت النبيَّ ﷺ وهو يصلِّي، فسلَّمت عليه، فأومأ برأسه.

وكان ﷺ يُصلِّي وعائشة معترِضَةً بينَه وبين القبلة، فإذا سجد، غَمَزَهَا بيده، فقبضت رجليها، وإذا قام بسطتهما. وكان يُصلِّي إلى جِدار، فجاءت بَهْمَةٌ تمرُّ من بين يديه، فما زال يُدارئها، حتَّى لَصقَ بطنُه بالجدار، ومرَّت من ورائه. وكان يُصلِّي حافيًا تارةً، ومنتعلًا أخرى، كذلك قال عبد الله بن عمرو عنه: وَأَمَرَ بالصلاة بالنعل مُخالفة لليهود.

ولم يكن مِن هديه القنوتُ في الفجر دائمًا. قال سعد بن طارق الأشجعيّ: قلتُ لأبي: "يا أبتِ إنَّك قد صليتَ خلفَ رسولِ الله ﷺ، وأبي بكر، وعمر، وعثُمَّان، وعليّ، رضي الله عنهم هاهنا، وبالكُوفة منذ خمس سنين، فكانوا يقنتون في الفجر؟ فقال: أَيْ بُنَيَّ"، مُحْدَثٌ رواه أهل السنن وأحمد وقال الترمذيّ: حديث حسن صحيح. وذكر الدارقطنيّ عن سعيد بن جبير قال: أشهد أنِّي سمعت ابن عبَّاس يقول: إنَّ القنوتَ في صلاة الفجر بِدعة.

وتركه القنوتَ أكثر من فعله، فإنَّه إنَّما قنت عند النوازل للدعاء لقوم، وللدعاء على آخرين، ثُمَّ تركه لمَّا قَدِمَ من دعا لهم، وتخلَّصوا من الأسر، وأسلم من دعا عليهم وجاءوا تائبين، فكان قنوتُه لعارض، فلما زال تَرَك القنوت، ولم يختصَّ بالفجر، بل كان يقنُت في صلاة الفجر والمغرب، ذكره البخاريّ في صحيحه عن أنس.

وقد ذكره مسلم عن البراء وذكر الإِمام أحمد عن ابن عبَّاس قال: قنت رسولُ الله ﷺ شهرًا متتابعًا في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصُّبح، في دُبُرِ كلّ صلاة إذا قال: سَمعَ اللهُ لِمنْ حَمِدَه من الركعة الأخيرة، يدعو على حيٍّ من بني سليم على رِعلٍ وذَكوان وعُصيّة، ويؤمِّن من خلفه، ورواه أبو داود.

 

 هديه صلَّى الله عليه وسلَّم في السنن الرواتب، وهديه في قيام الليل، وصلاته بالليل ووتره وذكر صلاة أوَّل الليل. ثُمَّ هديه في صلاة الضحى، وهديه في سجود القرآن

أمَّا عن هديه في السنن: فكان ﷺ يُحافظ على عشر ركعات في الحضر دائمًا، وهي التي قال فيها ابن عمر: "حَفِظْتُ مِن النبيِّ ﷺ عشرَ ركعات: ركعتين قبل الظُّهرِ، وركعتين بعدَها وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتينِ بعد العشاء في بيته، وركعتينِ قبلَ الصُّبح". فهذه لم يكن يدعُها في الحضر أبدًا، ولمَّا فاتته الركعتانِ بعد الظهر قضاهما بعد العصر، وداوم عليهما، وكان يُصلِّي أحيانًا قبلَ الظهر أربعًا، وركعتين قبل الغداة.

وفي السنن أيضًا عن عائشةَ رضي الله عنها: "أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ، كان إذا لم يُصلِّ أربعًا قبل الظهر، صلاهُنَّ بعدها"، وقال ابن ماجه: "كان رسولُ الله ﷺ إذا فاتته الأربعُ قبل الظهر، صلَّاها بعد الركعتين بعد الظهر"، وفي التِّرمذيّ عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "كان رسولُ اللهِ ﷺ يصلِّي أربعًا قبل الظهر، وبعدها ركعتين".

وكان عبدُ اللهِ بنُ مسعود يُصلِّي بعد الزوال ثمانِ ركعات، ويقول: إنَّهنَّ يَعْدِلْنَ بمثلهنَّ مِن قيامِ الليل وسِرُّ هذا - والله أعلم - أنَّ انتصافَ النهار مقابِل لانتصاف الليل، وأبوابُ السماء تُفتح بعد زوال الشمس، ويحصلُ النزول الإلهِيّ بعد انتصاف الليل، فهما وقتا قرب ورحمة، هذا تُفتح فيه أبوابُ السماء، وهذا ينزِل فيه الربُّ تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا.

وكان يُصلِّي عامَّةَ السنن، والتطوُّع الذي لا سبب له في بيته، لا سيَّما المغرب؛ فإنَّه لم يُنقل عنه أنَّه فعلها في المسجد البتَّة.

وقال الإِمام أحمد في رواية حنبل: السُّنَّة أن يُصلِّيَ الرجلُ الركعتينِ المغرب في بيته، كذا رُويَ عن النبيّ ﷺ وأصحابه. قال السائب بن يزيد: رأيتُ الناس في زمن عمر بن الخطَّاب، إذا انصرفوا من المغرب، انصرفوا. حتَّى لا يَبقى في المسجد أحد، كأنَّهم لا يُصلون بعد المغرب حتَّى يصيروا إلى أهليهم انتهى كلامه، والمقصود، أنَّ هدي النبيّ ﷺ، فعل عامَّة السنن والتطوُّع في بيته.

وكان في السفر يُواظب على سنَّة الفجر والوتر أشدَّ مِن جميع النوافل دون سائر السنن، ولم يُنقل عنه في السفر أنَّه ﷺ صَلَّى سنَّة راتبة غيرَهما. وقد اختلف الفقهاءُ: أيُّ الصلاتين آكدُ، سنَّة الفجر أو الوتر؟ على قولين: ولا يمكن الترجيحُ باختلاف الفقهاء في وجوب الوتر، فقد اختلفوا أيضًا في وجوب سنَّة الفجر، وسمعت شيخَ الإِسلام ابن تيميّة يقول:

"سنَّة الفجر تجري مجرى بداية العمل، والوتر خاتمته"

ولذلك كان النبيُّ ﷺ يصلِّي سنَّة الفجر والوتر بسورتي الإِخلاص، وهما الجامعتان لتوحيدِ العلم والعمل، وتوحيدِ المعرفة والإِرادة، وتوحيدِ الاعتقادِ والقصد، انتهى. وكان ﷺ يضطجع بعد سنَّة الفجر على شِقِّه الأيمن.

ولم يكن ﷺ يدع قيامَ الليل حضرًا ولا سفرًا، وكان إذا غلبه نوم أو وجع، صلَّى من النهار ثنتي عشرة ركعة، وكان قيامُه ﷺ بالليل إحدى عشرة ركعة، أو ثلاثَ عشرة، كما قال ابن عبَّاس وعائشة، فإنَّه ثبت عنهما هذا وهذا.

وكانت صلاته بالليل ثلاثةَ أنواع: أحدها - وهو أكثرها -: صلاته قائمًا، الثاني: أنَّه كان يُصلِّي قاعدًا، ويركع قاعدًا، الثالث: أنَّه كان يقرأ قاعدًا، فإذا بقي يسيرٌ مِن قراءته، قام فركع قائمًا، والأنواع الثلاثة صحَّت عنه.

وكان ﷺ يقَطِّعُ قراءتَه، ويقِفُ عِندَ كُلِّ آيَةٍ فيقول: "الحَمْدُ للِه رَبِّ العَالَمِين، ويقِف: الرَّحمنِ الرَّحِيم، ويقِفُ: مَالِك يَوْمِ الدِّين".

وذكر الزهريُّ أنَّ قراءة رسول الله ﷺ كانت آية آية، وهذا هو الأفضل، الوقوفُ على رؤوس الآيات وإن تعلَّقت بما بعدها.

وكان رسولُ الله ﷺ يُسرُّ بالقراءة في صلاة الليل تارة، ويجهر بها تارة، ويُطيل القيام تارة، ويخفِّفه تارة، ويُوتر آخر الليل - وهو الأكثر - وأوَّله تارة، وأوسطَه تارة. وكان يُصلِّي التطوُّع بالليل والنهار على راحلته في السفر قِبَلَ أيّ جهة توجَّهت به، فيركع ويسجد عليها إيماءً، ويجعل سجودَه أخفضَ مِن ركوعه.

 


زاد المعاد في هدي خير العباد - الجزء الأول
زاد المعاد في هدي خير العباد - الجزء الأول
ابن قيم الجوزية
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00