قبل مجيء الإسلام، كانت الجاهليّة تعمّ وجه الأرض كلّها، وكانت هناك دولتان عظيمتان هما فارس والروم، تحكمان معظم الأرض يومئذ. ففي فارس كان كسرى الحاكم بمثابة إله، وكان الناس عبيدًا له، يعيشون حالة من الذلّ والفقر لا تليق بالإنسان، وكانت العبادة الرسميّة في البلاد هي عبادة النّار. أمَّا في بلاد الروم، فلم يختلف الحال كثيرًا عن بلاد فارس، فالقيصر كان هو السيّد، والعبيد هم باقي الشعب، وهم يموتون فداءً لإمبراطوريّة القيصر. وفي آسيا كانت هناك الحضارة الهنديّة، والتي كان يعتقد أصحابها أنّ العبيد قد خُلقوا من قدم الإله، لذلك فهم نجسون وقَدَرهم هو الإذلال والتعذيب، كما كانوا يُؤمنون بتناسخ الأرواح، ويقومون بعباداتٍ فيها ضلال بيّن، كعبادتهم للأبقار.
وفي الصين كان يحكم البلاد الإمبراطور، الذي يسجد له النّاس، وتُقدَّم له القرابين، بينما الإله المعبود هو بوذا، الذي ينحت له النّاس التماثيل بأيديهم، ثمَّ يعبدونها. أمَّا في الجزيرة العربيّة فكان هناك ثلاث ديانات وكلّها كانت على ضلال، فاليهود بكتابهم المُقدّس المُحرّف، والنصارى بانحرافات معتقداتهم، والعرب الوثنيّون كانوا يعبدون الأصنام ويضعونها بالكعبة، ويقولون عن أنفسهم إنَّهم على دين إبراهيم. وكان العرب يئدون البنات، ويشربون الخمر، ويستبيحون الزنا، وذلك كان حال العالم قبيل البعثة المحمّدية، لقد كان الواقع شركًا يملأ وجه الأرض، ظلماتٍ لا يبدو فيها بصيص من النور.
صفات الرسول وأحواله قبل البعثة: كان صلَّى الله عليه وسلَّم هو صفوة الأنبياء جميعًا وصفوة الخلق، فقد كان في شبابه الباكر له سمت الرجل الوقور العميق التفكير، وكانت له مسالك الإنسان الحكيم فلم يكن يلهو كما يلهو الشباب، ولم يكن يذهب إلى مجالس الخمر، ولم يكن يذهب إلى الأصنام التي تُجاور الكعبة، لذلك التفّت حوله الأنظار، ولقَّبه النّاس بالصادق الأمين، وذلك لصدقه ولأمانته الخالصة. لقد كان محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم راجح العقل، كثير الصمت والتأمّل، وعُرف عنه أنّه كان يتعبّد شهرًا كلّ سنة في غار حراء، وذلك على دين إبراهيم ومما هو بعيد عن التحريف.
إنّ شخصية الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، هي أعظم شخصيّة في تاريخ البشرية كلّها، فقد كان قائدًا سياسيًّا عظيمًا، وقائدًا حربيًّا عظيمًا، ومُربيًا عظيمًا، وعابدًا عظيمًا، وزوجًا عظيمًا، وأبًا عظيمًا، إنَّها عظماتٌ بعضها فوق بعض، اجتمعت كلّها في شخصه الكريم.
خصائص الرسالة المحـمديّة
الرسالة المحمديّة هي الرسالة الخاتمة، وبها كمل الدين، وتمّت النعمة الربانيّة على البشريّة قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا) [سورة المائدة: الآية ٣]. وتتميّز الرسالة المحمَّديّة عن الرسالات السابقة كلّها بجملة خصائص وهي: ختمها للرسالات السابقة ونسخها لها، وهو ما ذكرناه من قبل، ودعوتها إلى الإيمان بما جاء به الأنبياء من قبل، فالرسالة المحمَّديّة هي الوحيدة التي يؤمن أتباعها بالرسل جميعًا وبما أُنزل عليهم، على عكس النصارى واليهود.
وهي شاملة لمطالب الحياة البشريّة في جميع الميادين: فهي تشتمل على القضيّة الكُبرى وهي قضيّة الألوهيّة، التي لا يستقيم بدونها أيّ إصلاح في الأرض، ثمَّ تشتمل بعد ذلك على تشريعات وتوجيهات في كافّة شئون الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وغيرها.
وأمَّا منهجها الفكريّ: فهو منهج البحث عن الحقّ وهو ما يظهر في التخلّي عن التقليد الأعمى والموروثات الفاسدة، وأيضًا التدبّر في كلّ الأمور بالمنطق العقليّ وليس بدافع الهوى.
وهي متميّزة بغنى مصادرها التشريعيّة، حيث مصادر التشريع في الإسلام إلى أربعة أصول، وهي الكتاب والسُنّة والإجماع والقياس.
وهي موافقة للفطرة البشريّة: ففي الفطرة البشريّة مجموعة من الغرائز، أودعها الله لتُعين الإنسان في الحياة، كالطعام والشراب والجنس والتملّك وغيرها، والإسلام يُتيح لكلّ هذه الدوافع أن تعمل ولكن مع تهذيبها، حتَّى لا تُصبح شهوات جامحة تضرّ بحياة الإنسان، ولذلك لا يُقرّ الإسلام الرهبانيّة لأنَّها ضدّ الفطرة.
وأخيرًا فإنّ السماحة واليُسر من خصائص الرسالة المُحمَّديّة، فالتكاليف المفروضة على المُسلم، كالصلاة والصيام والزكاة، كلّها في حدود طاقته البشريّة، فإن عجز عنها عجزًا حقيقيًّا، فإنّ الله سبحانه وتعالى يُخفّف عنه بمقدار عجزه.
أهم ما جاءت به الرسالة المحمَّديّة من القيم العليا: ترسيخ عقيدة التوحيد، وذلك عن طريق التذكير الدائم بنِعَم الله وأنّـَها من عند الله وحـده، وبأنّ كلّ ما يُصيب الإنسان هو بقَدْرٍ من الله، وأنّ أحدًا لا يملك تغيير قدر الله بأيّ صورةٍ من الصور، وأيضًا بالتعريف بالله وصفاته وأسمائه الحسنى.
إبراز الكرامة الإنسانيّة
ادّعت الديموقراطيّة الغربيّة أنَّها قرّرت لأوَّل مرَّة حقوق الإنسان، وهي دعوى زائفة تاريخيًا؛ ذلك لأنَّ الإسلام كان قد سبقها في تقرير حقوق الإنسان بعشرة قرونٍ على الأقلّ، وهي أيضًا دعوى زائفة واقعيًّا؛ لأنّ الإسلام أقرّ هذه الحقوق في عالم الواقع والتطبيق العمليّ، بينما قرَّرت أوروبا حقوق الإنسان في كتب كثيرة ومواثيق دوليّة، إلَّا أنَّ ذلك غير موجود على أرض الواقع. وقد قرَّر الإسلام الكرامة الإنسانيّة بنفيه أن تكون للناس خطيئة أبديّة تستذلّهم طول العمر، حتّى يأتي عيسى ليفتدي بنفسه خطايا البشر بالموت على الصليب، وليس لدى المسلمين كهنوت يتوسّطون بين الإنسان والله، وغير ذلك من الأفكار المتناقضة الموجودة بما قد حرِّف من دين النصارى.
تقرير مبدأ الشورى والعدل وهو من أهمّ ما جاءت به الدعوة الإسلاميّة من المَبادِئ، وقد كان صلَّى الله عليه وسلَّم يستشير المُسلمين فيما لم ينزل فيه وحي، ويأخذ بالأصوب من الآراء، كما استشار يوم بدر في شأن المكان الذي ينزل فيه المسلمون. أمَّا العدل فقد وصل الإسلام إلى القمّة في تطبيق نموذجه، وبمرتبة لم يصل إليها أحد قطّ خارج نطاق الإسلام.
المعجزة
المعجزة هي شيء خارق لمألوف البشر، يأتي به النّبي المرسل من عند الله، ويتحدّى النّاس أن يأتوا بمثله فيعجزون عن ذلك، فيكون هذا دليلًا على أنّه مرسلٌ من عند الله حقًّا، وليس قائمًا بدعوى كاذبة من عند نفسه. والمعجزة قد تكون كونيّة حسّيّة كانشقاق القمر وانفلاق البحر أمام موسى، وقد تكون عِلمًا مثل إخبار النّبيّ عن الأنبياء المُتقدّمين بما يُوافق ما عند أهل الكتاب، وقد تكون إخبارًا بالغيب كما أخبر الرسول عن زوال فارس والروم. وقد كان كلّ نبيّ يأتي بمعجزة من جنس ما اشتهر به قومه؛ ليكون تأثيرها حاسمًا في النفوس؛ لذلك أرسل الله موسى بمعجزة السحر لقومه، وهو ما اشتهر به المصريّون وقتها.
إعجاز القرآن الكريم
كانت معجزات الرسل كلّهم من قبل، معجزات حسيّة وكونيّة، كمعجزة طوفان نوح ومعجزات موسى وعيسى عليهما السلام، أمَّا معجزة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم فهي معجزة عقليّة معنويّة جامعة، وإن كان له معجزات أخرى حسّيّة وكونيّة كالإسراء والمعراج وانشقاق القمر، ولكنَّ المعجزة الكبرى التي بقيت على الزمن وخوطبت بها البشريّة كلّها هي القرآن.
نواحي الإعجاز في القرآن: الإعجاز اللغويّ، يبدو الإعجاز اللغويّ في القرآن في عدّة سمات يتميَّز بها الأسلوب القرآنيّ، ومنها أنَّ للقرآن نظمًا مُتفرّدًا فلا هو شعرٌ، ولا هو نثرٌ كنثر البشر، ولكن فيه من حلاوة الجرس والتنغيم ما يفوق الشعر، بدون أن يتقيّد بقيود الشعر الكثيرة. وأيضًا فللقرآن خاصِّيّة إحياء المشهد المعروض، ففي كلّ قراءة جديدة له يشعر الإنسان كأنَّه يتلقَّاه ويعيشه ويتذوَّقه لأوَّل مرّة، كما في المشاهد الكونيّة المذكورة في القرآن والتي تتحدّث عن الشمس والقمر أو الليل والنهار، أو كأنَّ الإنسان يرى المشهد مُجسّدًا أمامه، وهو ما يحدث مع المشاهد المُتخَيّلة، كما في قصص القدماء ومشاهد يوم القيامة المذكورة في القرآن.
ومن سمات الإعجاز اللغويّ للقرآن، أنَّ القرآن يتميَّز بالتنويع في طريقة العرض بحيث لا يتكرَّر مشهدان في كلّ تفاصيلهما أبدًا، على كثرة ما يُعرض في القرآن من المشاهد المُتشابهة، فهيّ تتشابه ولكنَّها لا تتماثل ولا تتطابق أبدًا. ومن الإعجاز كذلك أنّ كلّ سورة من سور القرآن لها جوّها الخاصّ وشخصيّتها المتميّزة، حتَّى وإن اشتركت في بعض الموضوعات مع غيرها من السور.
الإعجاز الموضوعيّ للقرآن الكريم
يندرج تحت الإعجاز الموضوعيّ للقرآن الإعجاز في التشريع، وهو يتمثّل في كون التشريع القرآنيّ هو الوجه المُقابل تمامًا لكلّ التشريعات الجاهليّة الظالمة كالرأسماليّة في الغرب، والشيوعيّة في الشرق. فالقرآن ينصّ على أنَّ الله وحده هو من له حقّ وضع التشريعات، وهو ما يعني أنّ هذه التشريعات ستكون عادلة، وأنّ الجميع سيخضعون لها بدرجة واحدة، وأنّ هذه التشريعات سوف تُغطّي جميع جوانب الحياة وخاصّة الجانب الأخلاقيّ، وهو ما يظهر بشكلٍ واضح في التشريع الخاصّ بالحدود والقصاص، والتشريع الخاصّ بالخمر.
الإعجاز العلميّ للقرآن الكريم
وهو يندرج أيضًا تحت الإعجاز الموضوعيّ للقرآن، ويظهر الإعجاز العلميّ للقرآن في الآيات التي تتحدّث عن أمور كونيّة وعلميّة لم تكن معروفة عند العرب المخاطبين بهذا القرآن لأوَّل مرّة، ولا عند غيرهم من الأمم في ذلك الحين، ولم يكشف عنها العلم الحديث إلَّا منذ وقتٍ قريب، فمثلًا قد أشار القرآن إلى الجبال بأنّها رواسٍ تمنع الأرض أن تميد بالناس، قال تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُم) [سورة لقمان: الآية ١٠]، ومؤخَّرًا أظهر العلم أنَّ الجبال تحفظ توازن الأرض، وأنّه حين يختل هذا التوازن تحدث الزلازل والبراكين.
كما أشار القرآن إلى تكوّن اللبن في بطون الأنعام من بين الفرث وهو الغذاء المهضوم، والدم، فقد قال سبحانه: (وَإِنَّ لَكُمْ فِى ٱلْأَنْعَٰمِ لَعِبْرَةً ۖنُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيْنِ فَرْثٍۢ وَدَمٍۢ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِّلشَّٰرِبِينَ) [سورة النحل: الآية ٦٦]، وهي حقيقة علميّة لم تُكتشف إلَّا في هذا القرن.
وضع العالم الإسلاميّ المعاصر
لا شكَّ أنّ الوضع الحاليّ للعالم الإسلاميّ، هو أسوأ وضعٍ مرّ به في التاريخ، فأعداء الإسلام يتكالبون على العالم الإسلاميّ اليوم بضراوة شديدة، يذبّحون ويقتّلون منهم في كلّ مكانٍ، وقد تفشّى الفقر والجهل والمرض في البلاد الإسلاميّة، وتأخّر المسلمون في جميع الميادين، والسبب في ذلك أنَّ المسلمين لم يفوا بوعدهم مع الله، فإنَّما وعدهم بالاستخلاف والتمكين في الأرض مقابل أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا، ولكنّهم أعرضوا عن الله وعن قرآنه، فلم يعودوا يستمدّون من القرآن الشريعة، ولا منهج التربية الذي يتضمّنه القرآن.
وقد تخلَّى المُسلمون عن شرط الإيمان الصحيح، ونسوا أنَّ الإيمان ليس بالتمنّي ولا بالتحلّي، ولكنّه ما وقر في القلب وصدَّقهُ العمل، فوصلوا بذلك التفريط إلى هذا الحال البائس الذي هم عليه الآن.
مستقبل الأمّة الإسلاميّة
لا خلاص للأمّة الإسلاميّة ممّا هي فيه إلَّا بالرجوع إلى الله واتّباع المنهج القرآنيّ الحكيم، فقد جرَّب العالم الإسلاميّ أن يقتفي أثر الشرق والغرب من أجل الإصلاح، فكانت النتيجة نكسات تلو نكسات، وذلك لكون هؤلاء الضالّين من أهل الكتاب مستغرقين في مخالفة منهج الله والبعد عن كتابه. فيجب على المسلمين أن يُدركوا أنّ كتاب الله وسنّة رسوله هما خير ممَّا يسعون إلى اكتسابه من مناهج الجاهليّة، وأنَّ التشريع السماويّ الإسلاميّ المحفوظ من التحريف هو أكمل وأفضل تشريع، وأنّ منهج التربية الإسلاميّة وحده هو الكفيل بتكوين الإنسان الصالح، وحين يستقيم أمر المسلمين على هذه المنهج، فيومئذٍ فقط سوف يتغيّر واقعهم إلى الأفضل.