الباب الثالث: الإيمان بالكتب

إنّ الكتب السماويّة التي ورد ذكرها في القرآن بترتيبها التاريخيّ هي: صحف إبراهيم، والتوراة، والزبور، والإنجيل، والقرآن، ثمَّ جاء الأمر الربّانيّ بالإيمان بالكتب المُنزّلة جميعها، مع التأكيد على أنّ جميع الكتب السابقة قد تمَّ تحريفها، وأنّ القرآن قد نَسخَ الكتب السابقة كلَّها، وأنّ الله قد تكفَّل بحفظه من كلّ عبثٍ أو تحريف. 

وجوب الإيمان بالكتب السماويّة

إنّ الإيمان بالكتب السماويّة كلّها أمر واجب، لا يتمّ إيمان المرء إلَّا به، وهو أمر بديهيّ بالنسبة لمن يؤمن بالله، فحينما يُخبره الله في كتابه الكريم بأنّه قد أنزل كتبًا على الأنبياء والرسل السابقين، فالواجب على المؤمن أن يعتقد يقينًا أنَّها مُنزّلة من عند الله؛ فالقضيّة عند المؤمن واضحة ومحسومة ولا تحتاج إلى جدال، أمَّا من جادلوا فيها فهم من أهل الكتاب، الذين رفضوا أن يؤمنوا بأنَّ القرآن مُنزَّل من عند الله.

تحريف الكتب السابقة

أخبرنا الله في كتابه المُنزّل، أنَّ أهل الكتاب حرَّفوا كتبهم، فلم تعد على صورتها التي أنزلها الله بها. وذلك التحريف قد أتى في كتب أهل الكتاب على ثلاثة أنواع: تحريف المعنى مع بقاء اللفظ على ما هو عليه، مثلما فعل اليهود حينما أباحوا لأنفسهم التعامل بالربا رغم أنّه مُحرَّمٌ في التوراة، وذلك بتحايلهم على النّص الموجود بكتابهم، وقولهم إنّ الربا يجوز ولكن مع غير اليهود، أمَّا فيما بين اليهود خاصَّة فلا يجوز التعامل به. وتحريف بالتغيير والإضافة وهو ما حدث في التوراة والإنجيل معًا، وأبرز مثال على ذلك النوع من التحريف هو أسطورة أُلوهيّة عيسى وبنوّته لله، وكون الله ثلاثة: الأب والابن والروح القدس؛ وكلّها افتراءات وأكاذيب قد تمّت إضافتها إلى الإنجيل المُنزّل من عند الله، كتبوها بأيديهم وزعموا أنّها من عند الله.

النوع الثالث من التحريف هو التحريف بالكتمان وهما صنفان، كتمان في أحكام الشريعة، وهو ما حدث حينما عصى أهل الكتاب الله عزَّ وجلَّ بكتمانهم لأحكام الشريعة، وذلك على خلاف ما أمرهم الله، وكتمان الإشارة إلى بعثة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم، وذلك حينما اجتهد أهل الكتاب في محو كلّ ذكرٍ صريح لمحمّدٍ في كتبهم، وأخفوه عن الناس، فقد جاء في الإنجيل مثلًا على لسان عيسى عليه السلام: "يأتي من بعدي الفاراقليط" وهي كلمة يونانيّة معناها الحمد، أي أنَّها مُشتقّة من "أحمد"، ورفض النصارى أن يترجموها في النسخة العربيّة حتَّى تبقى غير مفهومة.

تولِّي الله تعالى حفظ القرآن

لقد بقي القرآن محفوظًا خلال أربعة عشر قرنًا من الزمان، وسيظلُّ باقيًا ما شاء الله له أن يبقى لم يصبهُ تغيير ولا تحريف، منذ أنزله الله على رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم. أمَّا التوراة، فقد تولّاها قوم غضب الله عليهم؛ لأنّهم كفروا بالله وقتلوا أنبياءه، وأفسدوا في الأرض، كما أنّهم قاموا بمحو ما لم يُوافِق هواهم من الكتاب المُنزّل عليهم، وأضافوا إليه إضافات أخرى. وبالنسبة للإنجيل، فإنّ أصحاب عيسى وحواريّيه، لم يقوموا بتدوين الإنجيل كما سمعوه منه، إلَّا بعد ثلاثين عامًا من رفع عيسى عليه السلام، وإنَّما كانوا يتناقلونه سرًّا من الذاكرة، ولذلك فإنّ الأناجيل الموجودة الآن ليست هي نصَّ الكتاب المُنزّل باعتراف أصحابها، وإنَّما هي ذكريات شخصيّة كتبها كلّ مؤلف منهم على حدة.

أمَّا القرآن فقد هيّأ الله له ظروفًا مختلفة تمامًا، فقد هيّأ له أُمّة قويّة في الحفظ بصورة غير عاديّة، وهيّأ له سهولة في الحفظ، وهيّأ له مراجعة من الملأ الأعلى، فقد كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يَحفظُ ما يُوحى إليه، ثمَّ يُراجعه على جبريل عليه السلام مرَّة كلّ سنة، وفي السنة الأخيرة راجع جبريل القرآن كلّه على رسول الله مرّتين.

مكانة القرآن في نفس المؤمن

لا يُوجد كتاب في التاريخ البشريّ كلّه نال من المكانة في نفوس أصحابه ما نال القرآن من نفوس المؤمنين، ولا يوجد كتابٌ قد قُرئ قدر ما قُرئ هذا الكتاب، لذلك سمّاه ربّ العالمين "القرآن" أي الكتاب المقروء. وحينما نتدّبر القرآن ستتّضح لنا معانٍ عديدة ومهمّة، ومنها أنّ القرآن هو منهج التربيّة الإسلاميّة، فالقرآن هو كتاب التربيّة الذي ربّى هذه الأمّة، وهو يحوي جميع عناصر التربية الصالحة بين صفحاته الخالدة، التي نزلت في القرآن للتربية وللتوجيه. كما أنّ القرآن هو كتاب الشريعة؛ فقد أنزل الله شريعته في القرآن لتحكم حياة الناس إلى قيام الساعة، فلا شيء في حياة المسلم بجميع نواحيها، يجب أن يرجع فيه إلى مصدر آخر غير القرآن، فنظام حياة المسلم موجود كلّه في هذه الشريعة التي تصلح للتطبيق في كلّ مكانٍ وزمانٍ.

 ومن جملة المعاني التي يتدبّرها الإنسان عند قراءة القرآن أنّ القرآن مُرشد السالكين في رحلة الحياة، فالقرآن هو دليل الرحلة البشريّة من مبدئها إلى مُنتهاها، وهو الذي يمنع الإنسان من الضلال، ومن الغرق في أسئلة لا يعرف لها إجابات. فحينما يقرأ الإنسان القرآن، سيعرف كيف خلقهُ الله، وممّ خُلق، ولماذا خُلق، وما هو المنهج الذي ينبغي أن يعيش بمُقتضاه، وما هو مصيره بعد الموت، وهكذا.

وذلك بخلاف تدبّر السنن التي تحكم حياة الإنسان؛ كسُنّة تمكين المؤمنين في الدنيا لإصلاح الأرض، ثمَّ تكون لهم العاقبة الحسنة في الآخرة وينعمون بالجنّة، وسُنّة تمكين الكافرين في الدنيا ولكن فتنةً وابتلاءً، ليأخذهم الله بعدها أخذ عزيزٍ مُقتدر، وغيرها كثير من سُنن الله في كونه. ومن معاني تدبّر القرآن أيضًا، معرفة الأحداث التاريخيّة الكُبرى؛ من تمكينٍ للأمة المسلمة في الأرض لفترة طويلة من الزمن، ومن انحسار المدّ عن الحركة الإسلاميّة بعدما تخلّى المسلمون عن رسالتهم، ومن تمكينٍ لأوربا في الأرض من بعد ذلك، وغيرها كثيرٌ من الأحداث التاريخيّة الهامّة.

مُقتضى الإيمان بالقرآن: إنّ الإيمان بأنّ القرآن هو كلام الله المنزّل على رسول الله يقتضي أن تكون له آثارٌ واقعيّة في حياتنا، وذلك بأن نعيش معه ونتعبّد بتلاوته، حتَّى نستشعر بأنّ الله يُخاطبنا شخصيًّا بهذا القرآن، ويقتضي ذلك أن نُربّي أنفسنا به وعليه، فهو كما ذكرنا يعدَّ كتاب التربيّة الإسلاميّة الشامل، وأداة التربية العُظمى في القرآن هي العقيدة التي هي واقعٌ  تطبيقيّ يعاش، ومنهج كامل للحياة، والعقيدة يجب أن تكون راسخة في القلب، وليست مجرّد معرفة نظريّة، لذلك نجد أنّ بعض الناس ربَّما يتزلزلون حينما يتعرّضون لمحنة أو كربٍ أو ضيقٍ في الرزق مثلًا؛ وذلك لأنّ معرفتهم بالله وبأسمائه وصفاته ليست راسخة، وهم ليسوا على يقينٍ بأنّ الله هو الرازق وحده، وأنّه هو الضارّ النافع، وأنّ الأمر كلّه بيده.


ركائز الإيمان
ركائز الإيمان
محمد قطب
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00