إنّ الأصل في النّاس هو الإيمان والتوحيد، فالله قد أشهدَ البشر جميعًا على أنّه هو وحده ربّهم، وهم في عالم الذرّ قبل أن يُولدوا، كما ذكر تعالى في سورة الأعراف، ولكنّ بعض النّاس قد انتكسوا عن هذه الفطرة السويّة، فمنهم من أشركَ، ومنهم من ألحدَ.
الشرك
هو انتكاسةٌ تصيب الفطرة، ومرضٌ يصيب القلب، ومن أسباب إصابة القلب بهذا المرض إعجاب البشر وتعظيمهم بشكلٍ زائدٍ عن الحدّ، يصل إلى درجة التقديس، وقد يكون ذلك الإعجاب بالصالحين أو الأنبياء أو العلماء أو غيرهم من الجنّ والملائكة.
وأيضًا فمن أسباب الشرك الميل إلى الإيمان بالمحسوس والغفلة عن غير المحسوس، فحينما يحصر الإنسان اهتمامه فيما يراه أو يسمعه أو يلمسه فقط؛ فإنَّه يغفل بالتبعيّة عن كلّ ما لا يمكن لحواسّه أن تُدركه، كالإيمان بالغيب، والانغماس في آفاق التفكير والتدبّر لكلّ ما في الكون من معجزاتٍ إلهيّة؛ حتى يصل الإنسان إلى إنكار ما وراء الحسّ إنكارًا كاملًا قد يؤدّي إلى إنكار وجود الله نفسه.
كما أنّ الهوى والشهوات أحد أسباب الشرك، كما يقول الله عزّ وجلّ: (أَرَءَیۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُۥ هَوَىٰهُ) [سورة الفرقان: الآية ٤٣]، فمن يتبّع شهواته، يرفض أن يلتزم بما أنزل الله; ولذلك تجد هؤلاء الناس يُنكرون أنّ ما جاء من عند الله هو الحقّ، ويُجادلون فيه بالباطل، فيقعون حينها في الشرك. ويُعَدّ الكبر من الأمراض التي تصيب الفطرة أيضًا، فتنحرف بها عن صورتها السويّة وتورِّطها في الشرك، ويبدأ الكبر بالاستكبار على الناس، وينتهي بالاستكبار عن عبادة الله تعالى.
ومن أهم أسباب الشرك في تاريخ الجاهليّات، هو وجود طغاة من البشر يُريدون أن يستعبدوا الناس ويُسخّروهم لقضاء شهواتهم، فهؤلاء الطغاة ينصبون أنفسهم أربابًا من دون الله على بقيّة الخلق.
أنواع الشرك
كانت هناك ألوان متعدّدة من الشرك في الجاهليّة العربيّة إلى جانب عبادة الأصنام وعبادة الجنّ والملائكة، ومنها شرك التقرُّب والزلفى، وهو نوع من الشرك، يمارسهُ الشخص الذي يعرف أنّ الله موجود، ولكنَّه مع ذلك، يتصوّر أنّ هناك كائنات أخرى لها بعض خصائص الألوهيّة، وأنّ التقرّب إليها يؤدّي إلى القُرب من الله، وهو ما نراه اليوم مع ملايين الناس الذين يطوفون حول أضرحة الأولياء والقدّيسين، ويطلبون منهم أن يُقرّبوهم إلى الله زُلفى.
وهناك أيضًا شرك طلب الشفاعة من غير الله، وهو قريبٌ من شرك التقرُّب والزُلفى، ويزيد عليه بأنّ فيه طلبًا للشفاعة من الأصنام عند الله كما كان في الجاهليّة، وخاصّة أصنام اللات والعُزى ومَناة، وهو ما نراه يحدث اليوم أيضًا في تشفيع الموتى من الأولياء والصالحين عند الله لقضاء الحاجات.
ومن أنواع الشرك أيضًا شرك الطاعة والاتّباع، ويقع فيه من يتوجّه بالطاعة لغير الله، وهذا اللون من الشرك هو الذي يعُمّ وجه الأرض اليوم، فالذي يُنادي بوجوب إفطار العمال في رمضان؛ لأنّ الصيام يضرّ بالإنتاج الماديّ، هو في الحقيقة يتّخذ الإنتاج الماديّ ربًّا له من دون الله؛ لأنّه يطيعه مُخالفًا أمر الله، وكذلك الذين يُنادون بخروج المرأة سافرة من أجل دعوى التحرّر، فهم يجعلون التحرّر ربًّا لهم؛ لأنّهم يُحلّون باسمه ما حرّم الله.
وهناك أيضًا شرك المحبَّة والولاء وفيه يكون ولاء ومحبَّة المسلمين لغير الله ورسوله والمؤمنين، أي للكافرين غير المؤمنين بالله كاليهود والنصارى. وأمّا شرك الرياء فيعني التوجّه بالعمل الصالح كالصلاة والصوم وغيرهما من الفرائض لغير الله طلبًا للمدح والثناء من الناس.
وقد يكون الشرك شركًا أكبر ينفي الإسلام بالكليّة، أو شركًا أصغر يُبطل العمل الذي صَاحبهُ، أو شركًا خفيًّا، والشرك على كلّ حال هو كبيرة من أكبر الكبائر.
آثار الشرك
يؤثّر الشرك على الإنسان فيقوم بـإطفاء نور الفطرة لديه، حيث إنّ الإنسان يستمدّ إشراقه ونوره من حقيقة التوحيد، فإذا أشرك بالله تصبح أعماله كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء. كما أنّه يتسبّب في القضاء على منازع النفس السامية، فينشغل الإنسان بالمتاع الزائف، وتُصبح الحياة البشريّة محكومة بقوانين الغاب. بالإضافة إلى أنّه يقضي على عزّة النفس ويفضي إلى وقوع صاحبه في العبوديّة الذليلة، فالمؤمن لا يبذل من عزّته لأحدٍ غير الله، ولكنّ المُشرك لا يعرف هذه العزّة ولا يذوقها، فهو عبدٌ للبشر أو عبدٌ للمال أو عبدٌ لشهواته، وهي كلّها عبوديّة ذليلة؛ لأنّها ليست لله الكريم، الذي يُعزّ عباده بعزّته.
ومن آثار الشرك أيضًا تمزيق وحدة النفس البشريّة، وهو ما نراه الآن في المجتمعات ذات التقدّم العلميّ والماديّ الهائل، بما فيها من تمزّق نفسيّ رهيب، يظهر في حالات القلق والاضطراب النفسيّ ومحاولات الانتحار وتعاطي المخدّرات والمُسكرات.
وأخيرًا فإنّ من آثار الشرك إحباط العمل، وفي حالة الشرك الأكبر، فإنّ صاحبه يُخلّد في النار والعياذ بالله.
الإلحاد
إنّ الإلحاد أمر نادر في تاريخ البشريّة; لأنّ الفطرة حينما تضلّ، تظلّ تؤمن بالله ولكنّها تُشرك معه آلهة أخرى، أمّا الإلحاد أي إنكار وجود الله فهو شذوذ نادر حتَّى في الفطرة المنحرفة، وسببه انطماس غير عاديّ في البصيرة، يجعل الإنسان يعيش في عالم الحسّ وحده، فيُؤلِّه المحسوس وحده، وينفي وجود الله.
أسباب الإلحاد
دور الكنيسة الأوروبيّة في إفساد النصرانيّة المنزّلة من عند الله: أفسدت المجامع التي أنشأتها الكنيسة الأوروبيّة لتقرير أمور العقيدة الدين الربّاني المُنزّل من عند الله، فهي قد جعلت الله ثلاثة بدلًا من واحدٍ، وجعلت المسيح ابن مريم إلهًا بدلًا من كونه بشرًا ورسولًا. بالإضافة إلى ما فعلته من إبطالٍ للحكم بشريعة الله المُنزّلة إلَّا في قضيتي الزواج والطلاق، وحُكِّم بدلًا منها القانون الرومانيّ في بقيّة أمور الحياة، وبذلك أفسدت الكنيسة الدين النصرانيّ إفسادًا كاملًا، وأصبحت أوروبا واقعة في الشرك منذ اعتناقها للمسيحيّة.
موقف الكنيسة من العلم
وقفت الكنيسة ضدّ الحركة العلميّة، التي بدأت تنشأ في أوروبّا بعد خروجها من العصور الوسطى المظلمة، وذلك بسبب خوفها على مكانتها في نفوس الجماهير، حتَّى لا تضيع مكانة رجال الدين في نفوسهم، وأيضًا حتَّى لا ينتشر الإسلام في أوروبا مع الحركة العلميّة المنقولة عن الجامعات الإسلاميّة والعلماء المسلمين، وهو ما جعلها تُحارب العلماء الأوروبيّين الذين تأثّروا بعلوم المسلمين محاربة وحشيّة، وتُهدّدهم بالقتل والتعذيب، وهو ما أوجد عداوة بين الدين والعلم، وأدّى لفصل العلم عن الدين في الحياة الأوروبيّة.
طغيان الكنيسة ورجال الدين
وهو ما ظهر في عدّة أمور، منها فرض احتكار الوساطة بين الناس والله; فلا يتّصل الإنسان بربّه إلَّا عن طريق الكاهن، وفَرضت عليهم السُخرة أي أن يعملوا في فلاحة الأرض المملوكة للكنيسة بلا أجر، وفَرضت عليهم العُشور وهي أن يُقدّموا عُشر مالهم هبة خالصة للكنيسة، وغيرها من الأحكام الجائرة.
وهناك أسباب أخرى لإفساد النصرانيّة المنزّلة من عند الله من قبل الكنيسة الأوروبيّة، ومنها الرهبانيّة، ومهزلة صكوك الغفران، وتشويه الكنيسة لصورة الإسلام في نفوس الأوروبيّين، وغيره ذلك.
إنّ قضية الإلحاد لا تقوم على أساسٍ من العقل ولا من العلم، فالملحدون يقولون بأنّ "الطبيعة" هي التي تخلق، رغم أنّهم هم أنفسهم من يقولون بأنّ الطبيعة "تخبط خبطًا عشوائيًّا" كما قال دارون، فكيف يُمكن للطبيعة العشوائيّة هذه أن تُدير كلّ هذا الكون وبهذه الدقّة المُعجزة؟
آثار الإلحاد في واقع البشريّة المعاصر
تَسبّب الإلحاد في القضاء على القيم الروحيّة والمُثل العُليا؛ وذلك لأنّ الهدف الحقيقيّ لحياة الإنسان على الأرض هو العبادة، فإمّا أن يعبد الله، وإمّا أن يعبد غير الله، لذلك نجد الشيوعيّ عبدًا للدولة وللنظام الشيوعيّ، والغربيّ عبدًا للمال، وهكذا.. فتلك هي عباداتهم، فكيف لهم أن يشعروا بالقيم الروحيّة والمُثل العليا؟
وقد تَسبّب الإلحاد أيضًا في الإخلال بالتوازن في حياة الإنسان، بينما الإيمان هو الذي يحفظ التوازن بين العنصرين المكوّنين لخلق الإنسان؛ الروح والجسد، ونحن نجد أنّ كلّ ما يسعى إليه الإنسان الآن هو مطالب الجسد وشهواته فحسب، وكأنّه فقد إنسانيّته وتحوّل إلى حيوانٍ أو ربّما انحطّ عنه درجة، كما أنّ القضاء على وازع الضمير هو أحد آثار الإلحاد في الواقع المعاصر، والضمير هو النفس اللوامّة، التي هي المحور الحقيقيّ لارتقاء النفس واستقامتها في الحياة، فمن يفقد النّفس اللوامّة، تتملَّكهُ النفس الأمّارة بالسوء، وهي التي ينبع منها الشرّ وينتشر في سائر أرجاء الأرض.
ومن آثار الإلحاد أيضًا، والتي تعدّ أسوأ آثاره في التاريخ وحتَّى عصرنا هذا، هو اختلال الأمن والسلام في المجتمع العالميّ، وهو ما يظهر في الحروب التي قُتل فيها ملايين البشر، والعدوان من الدول الكُبرى على المستضعفين، وذلك بخلاف تزايد نسبة الأمراض النفسيّة والعصبيّة ومحاولات الانتحار، وهي نتيجة طبيعيّة وهو مآل حتميّ لكلّ من لم تطمئنّ قلوبهم بذكر الله، وتأنس نفوسهم بالتعرّف عليه، وتطبّق منهجه الذي أنزله للناس على ألسنة الرسل.
وأخيرًا فإنّ فساد الفطرة الإنسانيّة والهبوط بها إلى مستوى الحيوان من آثار الإلحاد والتي تظهر اليوم في مجتمعاتنا بشكلٍ شديد الوضوح، فنراها مثلًا تتمظهر في ملابس الشباب الضيّقة، وفي الفتيات اللاتي تُدخنّ وتشربن الخمر وترتدين ملابس الرجال، ونراها في النساء الكاسيات العاريات في الطريق، ونراها في الرجال الذين لا تخطر لهم قضية العرض على بالٍ، فلا يَغارون على نسائهم ولا على أعراضهم، بالإضافة إلى صنوف أخرى من مظاهر انتكاس الإنسان إلى مستوى الحيوان الأعجم.
موقف المسلم من قضيّة الإلحاد
إنّ موقف المسلم من قضيّة الإلحاد هو موقف واضح تمامًا؛ فهو يردّ هذه الفرية من أساسها، ويُبطلها إبطالًا كاملًا، فليس في أصول دينه ولا في ثقافته ولا في تاريخه ما يؤدّي إلى شيءٍ ممّا حدث للنّاسِ في أوروبا من أشكال الاختلال؛ فأُصول الدين قد تكفّل الله بحفظها من الضياع أو التحريف، وتمّ حفظ السنّة وتمحيص رواياتها وتدوين الصحيح منها، ثمّ إنّ الإسلام ليست له كنيسة تُحرّف الدين، وليس له رجال دين ولا كهنوت يُسيطرون على أفكار الناس، فعلماؤنا يجتهدون وقد يخطئون، وليس لأحدٍ منهم قداسة كرجال الكهنوت، كما أنّه لا رهبانيّة في الإسلام، لذلك لا يُتَصوّر أن يتّجه مسلم واحد في هذه الأرض إلى الإلحاد.