في التاريخ قوانين تحكم الأحداث والظواهر، وتُوجِّهها الوجهة التي يقتضيها منطق القانون، والخروج على هذه القوانين هو كالخروج على قوانين التنفُّس والغذاء وقوانين ضغط الغازات، ومن خلال تحليل الفترة التاريخيّة التي تحدّثتُ عنها في هذا الكتاب، وجدتُ أنّ هناك مجموعة من القوانين التي حكمت أحداث هذه الفترة:
صحّة المجتمعات ومرضها أساسهما صحّة الفكر أو مرضه.
كلّ مجتمع يتكوّن من ثلاثة عناصر رئيسة، هي الأفكار والأشخاص والأشياء، ويكون المجتمع في أعلى درجات الصحّة حينما يكون الولاء للأفكار هو المحور الذي يتمركز حوله سلوك الأفراد وعلاقاتهم. وحينما يكون المحور هو الولاء للأشخاص، وتدور الأفكار والأشياء في فلك الأشخاص، فإنّ السمة الغالبة للمجتمع تصبح هي هيمنة مُحبّي الجاه والنفوذ وأصحاب القوّة، وهم من يُسخّرون الأفكار والأشياء لمصالحهم الشخصيّة أو لأحزابهم. أمَّا حينما يصبح الولاء للأشياء هو المحور، وتدور الأفكار والأشخاص في فلك الاشياء، فإنّ الهيمنة في المجتمع تكون لأرباب المال والتجارات وصانعي الشهوات.
القانون الثاني:
حينما تفشل جميع محاولات الإصلاح فإنَّ المطلوب هو القيام بمراجعة تربويّة شاملة.
والتي سيكون من نتائجها، إعادة النظر في كلّ الموروثات الثقافيّة، وكلّ العمليّات التربويّة، ابتداءً بفلسفة التربية وانتهاءً إلى تطبيقاتها السياسيّة والاجتماعيّة. ومفهوم التوبة في الإسلام يجسّد هذا القانون تمام التجسيد، فالتوبة بمفهومها الشامل هي مراجعة وتقويم لكلّ ما هو قائم في ميدان الفكر والشعور والسلوك، وهي في ميدان الفكر أخطر بكثير من ميدان العمل؛ لأنّ الفكر هو الحلقة الأولى في كلّ سلوك.
مع أنّ الإسلام هو العلاج المؤدّي إلى صحّة المجتمعات، وقيام الراقي من الحضارات، إلَّا أنّ الإسلام لا يؤدّي هذا الدور الحضاريّ إلَّا إذا تولَّى فقههُ أولو الألباب النَّيِّرة، والإرادات العازمة النبيلة.
فالأئمّة الأوائل من الصحابة وتابعيهم الذين نهضوا بالفكر الإسلاميّ، كانوا آيات معجزة في الذكاء منذ طفولتهم، وسنجد أنّ أذكياء الطلبة وأوائل الصفوف أو كما وصفهم القرآن بـ(أولو الألباب)، يتمّ تهجيرهم أو هجرتهم إلى مؤسسات العلم والبحث في الأقطار الأخرى، وأنّ من يتولَّى مراكز القيادة والتوجيه في العالم الإسلاميّ الآن هم الأغبياء.
بالرغم من أنّ الدين الإسلامي هو الدين الصحيح بين الأديان المعاصرة، وأنّه هو منهاج الحياة الراشدة الهانئة في الدنيا والآخرة، إلَّا أنّه لا يقود إلى هذا النوع من الحياة، إلَّا إذا أحكمت خطوات عرضه وتطبيقه، حسب نظام خاصٍّ ومنهجيّة معيَّنة.
فأوّل مبادئ هذا النظام وتلك المنهجيّة يكون بأن يبدأ التركيز على العنصر الأوّل من الشريعة الإسلاميّة وهو القيم، قبل تطبيق العنصر الثاني وهو الحدود. ومثال على ذلك هو عندما أحسّ أمثال الغزالي والشيخ عبد القادر بفساد منهج الإصلاح في زمنهم، قاموا بالانسحاب من الصفوف ليغيّروا ما بأنفسهم من قيم فكريّة، ثمَّ عادوا ليُصحِّحوا قيم الآخرين، وليضعوا مسار الإصلاح في طريقه وخطواته بترتيبها الصحيح.
قوّة المجتمعات إنَّما تتحقَّق من خلال نضج وتكامل عناصر القوّة كلّها في دائرة فعّالة فاعلة وتناسق صحيح، وهذه العناصر هي: المعرفة والثروة والقدرة القتالية.
فتتجسّد المعرفة في العلماء المختصِّين والخبراء، وتتجسّد الثروة في الاقتصاديّين ورجال الأعمال والأغنياء، بينما تتجسّد القدرة القتاليّة في الجند والقادة العسكريّين. والتناسق الصحيح المُشار إليه، يعني أن تتلاحم جهود الممثّلين لعناصر القوى الثلاثة، طبقًا لقاعدة معيّنة، وهي أن تدور القدرة القتالية والثروة في فلك المعرفة، لتكون السياسة الحكيمة والقيادة الناجحة. وحين يضطرب هذا الترتيب، تُصاب الأمم بالوهن والهزائم، وتُصاب الحضارات بالتخلّف والانحطاط.
ما لم يتزاوج الإخلاص مع الاستراتيجيّة الصائبة في تعبئة الموارد والقوى البشريّة في الأمّة، فإنّ جميع الجهود والطاقات سوف تذهب هدرًا على مذابح الصراعات الداخليّة وتؤول إلى الفشل والإفلاس.
ويتجسَّد هذا القانون في المؤسّسات التربويّة كالمدارس والجامعات، ومؤسّسات التخطيط والتنفيذ كالأحزاب والجماعات، ووجدتُ أنّه حين ينفصم التكامل بين المؤسّسات التربويّة والفكريّة وبين مؤسّسات التخطيط والتنفيذ، فإنّ الأخيرة تتيه دون إرشاد أو توجيه، وتتفتّت وحدة الأمّة أو الجماعة، ويثور الصراع الداخليّ ويدبّ الاضطراب في كيان هذه الأمّة.
ما لم يقم الإصلاح على التدرّج والتخصّص وتوزيع الأدوار، فلا شكَّ أنَّه سوف ينتهي إلى الفشل والإحباط المدمّر.
فحركات الإصلاح الناجحة تمرّ بثلاث مراحل؛ أوّلها هي مرحلة الانتقال من الغياب إلى الحسّ الاجتماعيّ، وهي أن يخرج الفرد من صنميّة العصبيّات الفرديّة والأسريّة والقبليّة، إلى حالة الحسّ بالحاجات العليا المشتركة والتحديات المصيريّة، ثمّ يبدأ بالدخول في المرحلة الثانية، وهي مرحلة الانتقال من الحسّ إلى الوعي الاجتماعيّ، وهي المرحلة التي لا بدّ أن تتضافر فيها عناصر القوى الثلاثة: المعرفة والثروة والقدرة القتالية التي ذكرناها من قبل، وبعدها يتمّ الدخول في المرحلة الثالثة وهي مرحلة الانتقال من الوعي إلى التطبيق.
وفي النهاية تظلّ الحاجة المُلحّة قائمة إلى الاستراتيجيّة الصائبة التي تنتقي المئات والألوف من أولي الألباب، ممّن يكونون أوائل الصفوف الدراسيّة، ثمَّ يجري إعدادهم وتربيتهم ليكونوا فريقين؛ فريق يتسلّم القيادة الفكريّة ويتجمّع في مراكز الدراسات والبحوث ليتفكَّروا في مشكلات العالم الإسلاميّ، وفريق يتسلَّم القيادة السياسيّة ويُحوّل هذه القوانين إلى سياسات وخطط، وبذلك تتكامل الطاقات والمؤسَّسات ويظهر جيل صلاح الدين الجديد وتعود القدس.