الباب الرابع

 انتشار حركة الإصلاح والتجديد والمدارس التي مثَّلتها

 

مدارس الإصلاح والتجديد

كان من آثار مدرسة الغزالي ظهور نوع جديد من المدارس، تسير على نفس المنهاج التربويّ الذي بلوره الغزالي، وكانت ذات طابعٍ إسلاميٍّ، تكاملت فيه ميادين العقيدة والتزكية والفقه. وقد انقسمت هذه المدارس إلى قسمين: قسم أقيم في العاصمة بغداد وعواصم الأقاليم؛ لتتخرّج منه القيادات السياسيّة ويبرز المشايخ التربويُّون، وقسمٌ آخر ركّز على تربية العامّة من الفلاحين وعوامّ الأحياء الشعبيّة في المدن. وكان من أهم هذه المدارس:

 المدرسة المركزيّة أو المدرسة القادريّة

تأسَّست في العاصمة بغداد، بهدف تخريج القيادات اللازمة للعمل الإسلاميّ، ونشر رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أسّس هذه المدرسة الشيخ عبد القادر الكيلانيّ الذي ولد عام 470 هجريّة في جيلان.

درس الشيخ عبد القادر الفقه الحنبليّ وبرز فيه، ثمَّ عمل في الوعظ والتدريس، ويبدو أثر الغزالي واضحًا في كتاباته وآثاره العلميّة، وفي سلوك الزهد الذي اختاره عبد القادر لنفسه، ولكن ذلك التأثر بالغزالي لم يكن إلَّا مرحلة مؤقَّتة، تميَّز بعدها عبد القادر بطريقته الخاصّة في الفكر والتطبيق.

وكان عبد القادر قد تولَّى إدارة مدرسة صغيرة كانت لشيخه أبي سعيد المخرمي، قبل أن يتوفّاه الله وتُنسب إليه، ليجعلها مركزًا لنشاطات عديدة، منها التدريس والإفتاء والوعظ، وهي المدرسة التي لعبت دورًا رئيسًا في إعداد جيل المواجهة للخطر الصليبيّ في البلاد الشاميّة، فقد كانت المدرسة تستقبل أبناء النازحين الذين فرّوا من وجه الاحتلال الصليبيّ، ثمَّ تقوم بإعدادهم ثمَّ إعادتهم إلى مناطق المواجهة الدائرة تحت القيادة الزنكيّة.

نظر الشيخ عبد القادر إلى المجتمع المُعاصر، على أنَّه مجتمع الرياء والظلم وكثرة الشبهات والحرام، لذلك ركَّز تركيزًا شديدًا على محاربة النفاق والأخلاق الاجتماعيّة المتدنِّية التي سادت. كما ركّز عبد القادر على نصرة الطبقة العامّة والفقراء خاصّة، فجعل الاهتمام بشؤونهم من شروط الإيمان، وفي الوقت نفسه، قام بشنّ حملة شديدة على الولاة الذين يظلمونهم.

وقد هاجم عبد القادر التعصُّب المذهبيّ، ونهى طلبته وأتباعه عنه، في حين أنّه أعطى عناية خاصّة لإصلاح التصوّف، وإعادته إلى مفهوم الزهد، ثمَّ توظيفه لأداء دوره في خدمة الإسلام وإصلاح المجتمع.

 

أمًّا بخصوص مدارس النواحي والأرياف والبوادي، فقد كان من أهمِّها :

المدرسة العدويّة

 أسّسها الشيخ عديّ بن مسافر، الذي أدرجه ابن تيميّة في قائمة "كبار الشيوخ المتأخِّرين". نشأ الشيخ عديّ في منطقة البقاع بدمشق، وقال عنه الشيخ عبد القادر: "لو كانت النُبوّة تنال بالمجاهدة، لنالها الشيخ عديّ بن مسافر".

كان الشيخ عديّ عالمًا مُتبحِّرًا في علوم الشريعة، راسخًا في الزهد، وظلَّ متفرِّغًا طوال الوقت للتربية والتدريس والعبادة حتى وافته المنيّة في عام 557 هـ.

 

المدرسة السهرورديّة

أسّسها الشيخ أبو نجيب عبد القاهر السهروردي، الذي درس في المدرسة النظامية ببغداد وتأهَّل للتدريس فيها، لكن منهجه لم يرق للسلطان، فعُزل وامتُحن من قبل الشرطة، فترك النظامية وسلك طريق الزهد، حيث صاحب الشيخ أحمد الغزالي وهو أخو أبي حامد الغزالي، ثمَّ انسحب مدّةً لمجاهدة نفسه وإكمال زهده، وبعد فتره عاد للمجتمع وبنى له في بغداد مدرسة خاصّة، استمرَّ يعمل فيها حتى وفاته عام 563 هـ.

 

المدرسة البيانيّة

تأسَّست في مدينة دمشق، على يد الشيخ أبي البيان نبأ بن محمّد بن محفوظ الدمشقيّ، المعروف بابن الحورانيّ. كان الشيخ أبو البيان زاهدًا صالحًا كثير العبادة، وكان حسن المعرفة باللغة، وكانت له مؤلَّفات ومجاميع. علا شأن الشيخ أبو البيان حتى صار له أصحاب وتلاميذ يهتدون بهديه، قبل أن يتوفَّى عام 551 هـ.

بالإضافة إلى غير ذلك من المدارس التي كانت تُطبِّق منهاجًا موحدًا للتجديد والإصلاح في التربية والتدريس؛ كمدرسة حياة بن قيس الحرانيّ في سوريا، ومدرسة علي بن الهيتيّ في العراق، ومدرسة عثمان بن مرزوق القرشيّ في مصر، ومدرسة أبو مدين المغربيّ في المغرب.

 

دور المرأة المسلمة في حركة التجديد والإصلاح

نهضت المرأة المسلمة لتحمُّل مسؤولياتها في حركة الإصلاح والتجديد التي أخرجت جيل نور الدين وصلاح الدين، ومن بينهنّ النساء المسلمات اللاتي وقفن إلى جانب شيوخ الإصلاح والتجديد، فمن المنتسبات إلى المدرسة القادريّة في هذا الميدان، الشيخة عائشة بنت محمّد البغداديّ، التي كرّست وقتها لوعظ النساء، وصارت من طلائع الوعّاظ والإرشاد والعبادة، ومثلها الشيخة المعروفة باسم تاج النساء، بنت فضائل على التكريتيّ، زوج عبد الرازق بن عبد القادر الكيلانيّ، والتي صارت من العالمات الواعظات المشهورات.

ومن المنتسبات إلى المدرسة السهرورديّة الشيخة المعروفة باسم خاصّة العلماء، بنت المبارك بن أحمد الأنصاريّ، والتي تزوَّجت الشيخ أبا النجيب عبد القاهر السهرورديّ مؤسِّس المدرسة. ومثلها الشيخة شمس الضحى بنت محمّد بن عبد الجليل البغداديّة، وكذلك الشيخة شهدة بنت أحمد بن الفرج، المعروفة بفخر النساء، والتي أصبحت من كبار العلماء وقادة الإصلاح، ودرس على يدها خلقٌ كثير من الرجال والنساء.

وغيرهنّ كثير من النساء المسلمات اللاتي اشتركن في حركة الإصلاح والتجديد التي خرّجت جيل صلاح الدين للوجود. 

 

التنسيق بين مدارس الإصلاح وتوحيد مشيخاتها

في الفترة الواقعة بين عامي 546 و 550 هجريّة، جرت حركة تنسيق واتِّصالات بين مدارس الإصلاح بهدف توحيد الجهود وتنظيم التعاون، ولتحقيق هذا الهدف، عُقد عدد من الاجتماعات واللقاءات، أدّت إلى نتائج هامّة على المستوى التنظيميّ والمستوى النظريّ.

تمَّ عقد الاجتماع الأوَّل منها في المدرسة القادريّة ببغداد، وحضر الاجتماع أكثر من خمسين شيخ من شيوخ العراق وخارجها. وحضر الاجتماع الثاني شيوخ المدارس الإصلاحيّة من مختلف أرجاء العالم الإسلاميّ،  ثمَّ تلا ذلك اجتماع موسّع ثالث، وكانت أهم نتائج هذا الاجتماع هي: تكوين قيادة واحدة على رأسها الشيخ عبد القادر، وكانت مهمَّة هذه القيادة الموحَّدة القيام بتنسيق نشاطات مدارس الإصلاح، وتوجيهها لأداء دورها فيما تخصّصت به من إشاعة الزهد، وتربيه الجيل عليه، باعتباره المحور الذي تدور حوله معالجة العِلل التي نخرت في المجتمع الاسلاميّ وأضعفتهُ في ذلك الوقت.


هكذا ظهر جيل صلاح الدين
هكذا ظهر جيل صلاح الدين
ماجد عرسان الكيلاني
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00