بدأت نواة الدولة الزنكيّة خلال حياة الوزير المُصلح نظام الملك، والذي أشار على السلطان ملكشاه، بتولية "آق سنقر قسيم الدولة" مدينة حلب، والذي تمَّ تلقيبه بهذا اللقب لأنَّه أظهر كفاية وهيبة في جميع البلاد التي حكمها، ولأنَّه كان من أحسن الناس سياسة للرعيّة، ودفاعًا عن ديار المسلمين. وفي عام 487 هـ، قُتل آق سنقر، وخلَفهُ ابنه عماد الدين زنكي الذي تمَّ قتله أيضًا بواسطة بعض المتآمرين، وخَلَفهُ ابنه نور الدين. ومن بعدها أصبحت دولة آل زنكي هذه كيانًا، التفَّ حوله أصحاب الاتِّجاهات التجديديّة وتلامذة المدارس الاصلاحيّة، وجعلوا منها دار هجرة تداعوا إليها من جميع الأقطار.
كانت الخطوة الأولى لإعداد الشعب إعدادًا إسلاميًّا هي التعليم، فقد عمدت الدولة إلى بناء المدارس ودور القرآن والحديث، واستقدمت مشاهير العلماء من الذين تخرَّجوا من مدارس الإصلاح كالغزاليّة والقادريّة وغيرهما، وأصبح التعليم نشاطا عقائديًا، يستهدف إعادة صياغة الجماهير المسلمة بما يتَّفق وأهداف الإسلام.
أمّا الخطوة الثانية فتمثّلت في التوجيه والإرشاد الجماهيريّ، والذي استهدف جماهير المسلمين من العمال والمزارعين والتجّار، وهو يُقابَل ما يُسمَّى في عصرنا الحاضر بـ "تعليم الكبار"، ولكنَّه لا يقتصر فقط على محاربة الأميّة، وإنَّما يستهدف الأخلاق والقيم والعقيدة كذلك. وقد تخصَّص في هذا الميدان شيوخ التصوّف، بعد أن جرى إصلاح التصوّف على يد الشيخ عبد القادر وأصحابه، حتى تبدَّلت البنية الفكريّة القديمة لبلاد الشام، وحلّ محلّها طابعٌ إسلاميٌّ واضحٌ، وبرز جيل مُسلمٌ جديد يختلف عن الأجيال السابقة.
تميَّزت القيادات السياسيّة والإداريّة والعسكريّة بالتزامها العقائديّ في جميع نشاطاتها، والسبب في ذلك يعود إلى تربيتها الإسلاميّة، فقد كان نور الدين زنكي تقيًّا ورعًا، حتى عدَّهُ المؤرّخون سادس الخلفاء الراشدين، وأنّه لم يأت مثله بعد عمر بن عبد العزيز. كما اتصّفت الدولة الجديدة بالزهد والتعفُّف وبذل المال في الصالح العامّ، فقد كان نور الدين زنكي مقتصدًا في الإنفاق على نفسه وعلى أسرته، حتى قيل: إنّ أدنى الفقراء في زمانه كان أعلى نفقة من نور الدين.
هذا ولم يقلّ عهد صلاح الدين عن هذا المستوى من الزهد في المال، فقد مات صلاح الدين ولم تجب عليه الزكاة قطّ، لأنَّ الصدقة استنفذت أمواله كلّها، فلم يترك إلَّا دينارًا واحدًا وفرسه وسلاحه وخيمته. وامتازت الأجواء العامّة أيضًا بتوفُّر الأمن وحريّة الرأي، فكان كلّ إنسان يقول رأيه دون خوف من التعرّض للأذى او الانتقاد، حتى لو كان النقد موجَّهًا لنور الدين أو صلاح الدين أنفسهما.
بخلاف المدرسة القادريّة التي ساهمت بدورٍ هامٍّ في إعداد أبناء النازحين من مناطق الاحتلال الصليبيّ، وإعادتهم إلى مناطق الثغور والمرابطة، وهم الطلاب الذين عُرفوا باسم المقادسة نسبةً إلى مدينة القدس، ظهر التعاون بين مدارس الإصلاح والدولة الزنكيّة في هجرة العلماء من بلادهم، للعمل في المدارس النوريّة والصلاحيّة، والمدارس التي أنشأها نور الدين وصلاح الدين، كالشيخ موسى بن الشيخ عبد القادر الذي ترك بلده واشتغل بالتدريس في دمشق حتى وفاته.
كما كانت المشاركة في الجيش والجهاد العسكريّ، دليلًا على التعاون بين مدارس الإصلاح والدولة الزنكيّة، فالكثير من مدارس الإصلاح وأبرزها المدرسة العدويّة، قد خرّجت جيلًا من أمراء الجيش وقادة الفتح وجنوده، ومنهم أسرة صلاح الدين الأيوبيّ نفسه.
أولَى كلٌّ من نور الدين وصلاح الدين عنايتهما للحياة الاقتصاديّة، وكان لهذه السياسة أثرها في تشجيع النموّ الاقتصاديّ، فقد ألغى نور الدين الضرائب التي لا يقرّها الشرع، فنشط الناس للعمل، وبُنيت الأسواق التجاريّة، وازدهرت الصناعات المختلفة والزراعة، وتوفَّرت فرص العمل. كما أمر نور الدين بإصلاح الجامع الأمويّ الذي كان قد تمَّ تخريبه على أثر الفتنة التي حدثت بين العامّة عام 471 هـ. وقد وُصفت دمشق في ذلك الوقت، بأنَّها مفخرة من مفاخر الإسلام.
وكذلك فعل السلطان صلاح الدين بمصر، وكانت الدولة المصريّة في ذلك الوقت مذهبها الإماميّة، فحوَّل صلاح الدين الأزهر إلى جامعة سُنِّيّة، ونشر دور القرآن والحديث في جميع أرجاء القطر.
حينما ضمَّ نور الدين مملكة دمشق ونقل عاصمته إليها، تزايدت العناية ببناء القوّة العسكريّة، خاصّة حينما وجد نفسه وجهًا لوجه أمام تهديدات الصليبيّين، وترتَّب على ذلك ما يمكن تسميته بالمدرسة العسكريّة النوريّة أو الصلاحيّة، والتي استمدَّت أُصولها من توجيهات القرآن الكريم وتطبيقات السُنّة الشريفة.
وكان بناء القوّة العسكريّة يعتمد على بناء الصناعة والتحصينات العسكريّة، والتي ظهرت في عناية كلٍّ من نور الدين وصلاح الدين بإقامة التحصينات والقلاع والمصانع الحربيّة، فـتحت قيادة نور الدين بُنيت أسوار المدن الشاميّة وقلاعها، كقلاع دمشق وحمص وحلب، وتحت قيادة صلاح الدين، بُني الكثير من التحصينات العسكريّة وتمَّ إنشاء دورٍ لصناعة السفن، وكذلك أقيمت المصانع الحربيّة التي تزوّد الجيش والأسطول بكل أنواع الأسلحة والذخائر.
وبالنسبة لبناء الجيش والقوات المسلَّحة، فقد شارك نور الدين بنفسه في ميادين التدريب العسكريّ، وامتازت قيادته بمهارات عسكريّة فائقة، وقدرة متميّزة على تنظيم الجيوش والتخطيط للمعارك، كما أنّه كان يتحرّى السُنن الإسلاميّة في الأمور العسكريّة، فمثلًا كان الجند في ذلك الوقت يربطون السيوف في أوساطهم، فلمَّا قرأ نور الدين أنّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يتقّلد السيف، أمر بتغيير ذلك.
أمَّا صلاح الدين، فقد تبدَّلت شخصيّته بتأثير التوجيه الإسلاميّ الذي كان سائدًا في تلك الفترة، فقد كان صلاح الدين شابًا عاديًا يُكرس وقته للعب الكرة وركوب الخيل ولهو الشباب، واستمرَّ في ذلك حتى خرج مع عمّه أسد الدين شيركوه، وهو أكبر أمراء جيش نور الدين في حملته على مصر.
وقد أعاد الإسلام صياغة صلاح الدين وجيله بالكامل، وعندما تولَّى صلاح الدين القيادة، فاقت العناية بالتدريب العسكريّ الوصف، حتى أنّ القادة والأمراء وعلى رأسهم صلاح الدين نفسه، كانوا ينامون الليل مُتدرّعين بأسلحتهم، ويعيشون في خيمة كبقيّة الجُند. بخلاف ذلك كان هناك نوعٌ آخر من الإعداد العسكريّ، وهو تنمية إرادة الجهاد، بما يرافقه من ثبات وتضحية وصبر، وكانت الوسيلة إلى ذلك هي الحرص على أداء الشعائر وعلى رأسها الصلاة، بخلاف الوسيلة الرئيسة في تربية الإرادة وهي الذكر، ولقد عرفت حلقات الذكر هذه باسم الحضرة، والتي كان يرافقها الأناشيد التي تحضُّ على الإخلاص والزهد في الحياة والحرص على لقاء الله والاستشهاد في سبيله.
كانت أولى بدايات الوحدة الإسلاميّة انضمام مملكة دمشق عام 545 هجريّة بعد مناوآت طويلة من صاحبها، عَمدَ خلالها إلى معارضة الوحدة وتحالف مع مملكة الصليبيّين في القدس ضدّ الدولة الإسلاميّة، وكذلك قامت المواجهة مع دولة انفصاليّة أخرى، وهي دولة الفاطميّين في مصر. وقد أخذ نور الدين يتحيَّن الفرص الملائمة لعبور مصر، فأرسل حملة إلى مصر بقيادة القائد أسد الدين شيركوه، وابن أخيه صلاح الدين في عام 562 هجريّة، فوجد أنّ الصليبيّين قد أرسلوا حملة أخرى، ومضت مدة من المناوشات العسكريّة بين الطرفين، ولم تستقرّ الأمور إلَّا حينما قتل صلاح الدين وزير مصر الخائن شاور، وتطوَّرت الأحداث حتى انتهت إلى إلغاء الخلافة الفاطميّة نهائيًا، وضمّ مصر إلى الدولة الإسلاميّة.
ولم يتمكَّن نور الدين من فتح بيت المقدس كما أراد، فقد وافته المنيّة عام 569 هـ، فآل الأمر من بعده إلى صلاح الدين، الذي نازل الصليبيّين في مواقع متعدِّدة، حتى استطاع أن يزحف نحو القدس. والتحم المسلمون بالمحتلِّين متدافعين للجنّة والاستشهاد، ثمَّ دخلوا المدينة المقدَّسة مُكبِّرين مُهلِّلين، وتوجَّهت جموع المجاهدين إلى الأقصى المُحرّر، ونظَّفوه ممّا تراكم فيه من أوساخ المحتلِّين وقاذوراتهم.
وقد كان هدف صلاح الدين بعد ذلك أن يغزو مواطن الفرنجة في أوروبا لينشر الإسلام، ولكنَّه لم يستطع أن يحقّق هدفه بعد إصابته بعددٍ من الأمراض، إلى أن تُوفّي في عام 589 هـ ودُفن إلى جوار نور الدين في دمشق.
وكان موت صلاح الدين سببًا في توقُّف مشروع الفتوحات الإسلاميّة بالكامل.
آتت حركة الإصلاح والتجديد التي قام بها جناح النساء المسلمات ثمارها، وأفرزت جيلًا من النساء أسهم في حركة الجهاد، التي قادها كلٌّ من عماد الدين زنكي وولداه نور الدين وصلاح الدين. ولقد ضمّ جيل الجهاد النسائيّ نساءً من كافّة الطبقات، ابتداءً من نساء القيادة حتى نساء الطبقات الشعبيّة.
فمن نساء القيادات العليا السيّدة زمرُّد خاتون بنت جاولي أخت الملك دقماق بن تتش لأمِّه، وكانت كثيرة البرّ والصدقات والصلاة والصيام. ومن نساء القيادات أيضًا السيّدة عصمت الدين خاتون بنت معين الدين، زوجة نور الدين زنكي، وكانت زاهدة عابدة. وقد سلكت أخوات صلاح الدين الأيوبيّ المسلك نفسه؛ من المشاركة في الإصلاح والجهاد التربويّ.
نجحت مدارس الإصلاح والتجديد في إخراج جيل نور الدين وصلاح الدين، الذي استطاع مواجهة التحدّيات الصليبيّة وإعادة القدس، لكن هذه المدارس لم تنجح في إعداد الأمّة الجديدة بما يحافظ على استمرار وحدتها ونمائها الحضاريّ في ميادين الحياة المختلفة، بل إنّ التخلّف أصاب هذه المدارس نفسها، وانتهى بها إلى ما عُرف بـالطُّرق الصوفيّة، ولعلّ ابن تيميّة هو أكثر من ناقش هذا المصير السلبيّ الذي انتهت إليه مدارس الإصلاح. وبحسب تحليل ابن تيميّة، فإنَّ البدايات قد قامت على أصول سليمة تتَّفق مع الكتاب والسنّة، وأمّا النهايات فقد نسيت تلك الأصول الشرعيّة، ونَسبت إلى الشيوخ المؤسّسين الكثير من بدعها وضلالاتها؛ كالرقص في حلقات الذكر والغناء بالدُّفّ، وهي البدعة التي لم يفعلها سلف الأمّة ولا أكابر الشيوخ قبلًا.
وهناك عدّة عوامل انتهت بمدارس الإصلاح والتجديد إلى المصير الذي قد آلت إليه:
أوّلها هو: نقص الفقه الحركيّ الذي وجّه نشاطات هذه المدارس، وذلك بسبب أنَّ هذه المدارس ركّزت نشاطاتها على تحقيق عنصر الإخلاص في العمل، دون العناية نفسها لعنصر الصواب، أي إنّها ركَّزت على التربية أكثر من الاستراتيجيّة.
العامل الثاني هو: أثر قيم العصبيّات الأسريّة والقبليّة في تنظيمها القياديّ والإداريّ، فحينما لم يجد جيل الأبناء فقهًا سياسيًّا وإداريًّا يُنظّم عمليّة تعيين الحاكم ومؤسّسات الإدارة، ارتدّ إلى تقاليد العصبيّة الأسريّة والقبليّة وروابط الدم، الأمر الذي أدّى إلى تفكُّك الدولة وانقسامها، هذا بخلاف أنّ قيم العصبيّة الأسريّة تسلَّلت إلى مدارس الإصلاح نفسها، ممَّا أحال مدارس الإصلاح إلى إقطاعات دينيّة وعصبيّات مذهبيّة، كالطرق الصوفيّة والطريقة القادريّة وغيرها.
أمّا العامل الثالث فهو: سياسات السلطنة المملوكيّة المُفرطة في الظلم، ما أدّى إلى انتحار المعارضة السياسيّة اجتماعيًا، وتجسّد هذا الانتحار الجماعيّ في المقولات الخارقة والكرامات والمبالغات، التي نسبتها الطرق إلى الشيوخ الكبار المؤسّسين لمدارس الإصلاح.
وقد تركت كلّ تلك السياسات الظالمة آثارها المدمّرة في الشخصية المسلمة حتى الوقت الحاضر، وهكذا دفع العالم الإسلاميّ خاصّة الشام ومصر ثمنًا فادحًا.