كان لا بدّ للعالم الإسلاميّ أن يُغيّر أوضاعه تغييرًا جذريًا من داخله، وإلَّا فلن يكون أمامه مفرٌّ من الاستسلام للتحديّات التي قد تتسبَّب في تدميره، ومن هنا بدأت محاولات الإصلاح والتجديد.
كانت أولى المحاولات السياسيّة للإصلاح والتجديد، في الفترة التي تسلَّم بها السلاجقة مهامّ الإدارة في بغداد، والتي قام بها الأشاعرة الشافعيّة. فتمَّ إنشاء الجامعات والمدارس النظاميّة - نسبة إلى الوزير نظام الملك - الذي كان حصيف الرأي بعيد النظر. ولكن سرعان ما أخذت العلاقات تسوء بين الأسرة السلجوقيّة والأشاعرة الشافعيّة، حتى انتهى الأمر إلى مقتل نظام الملك عام 485 هـ، ممّا أدّى إلى انتهاء التحالف الذي كان قائمًا بين الأشاعرة الشافعيّة كحركة فكريّة، وبين الإدارة السلجوقيّة كحركة سياسيّة.
وبعدها تبدَّلت أهداف شيوخ الأشاعرة الشافعيّة بعد أن ذاقوا طعم المناصب، وتحوَّلوا من دعاة مُصلحين إلى مذهبيِّين مُحترفين يمالئون السلاطين للمحافظة على مكتسبات مذهبهم. وذلك عكس ما اختاره حُجّة الإسلام أبو حامد الغزالي، الذي استلهم منهاجه في الإصلاح من الأصول الإسلاميّة ومن تراث السلف.
ولد أبو حامد محمّد بن محمّد الغزالي عام450 هـ، وأخذ علومه الأوليّة في بلده طوس، ثمَّ رحل إلى نيسابور وتفقّه على يد إمام الحرمين الجوينيّ، وهناك ظهر ذكاؤه وتفوُّقه فاتَّخذه الجوينيّ مُعيدًا له.
برز الغزالي بين الأشاعرة حتى قرّبه الوزير نظام الملك إليه، وأسند إليه التدريس في المدرسة النظاميّة، ولقَّبه بلقب "زين الدين شرف الأئمة". وبعد وفاة السلطان ملكشاه، قرَّر الغزالي الانسحاب من صفوف التنظيم المذهبيّ ودور العلم التابعة للدولة، حينما أدرك أنّ الخطوة الأولى للإصلاح هي الانسحاب من الاشتغال بالأمور العامّة، للاشتغال بخاصّة نفسه، من أجل مراجعة الاتّجاهات النفسيّة والأهداف الحقيقيّة التي اكتسبها خلال النشاط المذهبيّ.
ومضى الغزالي في الاشتغال بخاصّة نفسه وعقله، ومال إلى الزهد والتصوّف، وتوجَّه إلى الشام حيث قضى فيها عشر سنوات، تفرَّغ خلالها لمراجعة أفكاره ومعتقداته، وقام بكتابة كتابه المنقذ من الضلال، وبعدها عاد إلى بلده طوس وابتنى لنفسه مدرسة، وركّز أهدافه على إخراج جيل جديد من العلماء الذين تتوحَّد أفكارهم وتخلص غايتهم لله، والتركيز على الأمراض الرئيسة التي تنخر في الأمّة من الداخل حتى توفِّي عام 505 هـ.
وتميَّزت معالجات الغزالي لشؤون الإصلاح والتجديد، باعتماده على النقد الذاتيّ، فلم يلجأ إلى تلمّس التبريرات وإلقاء المسؤولية على القوى المُهاجمة، كما اتَّصف منهجه بانطلاقه من منطلق إسلاميّ أصيل، تبعًا للمبدأ القرآنيّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11].
وردّ الغزالي أصل العلل في المجتمع الإسلامي إلى فقدان العلماء والمربّين الذين يعملون للآخرة لا للدُّنيا، ولذلك رأى أنّ الخطوة الأولى في التغيير، هي استشعار الحاجة الشديدة لهذا النوع من العلماء، فهم في نظره كالأطبَّاء، يقومون بوظيفة تطبيب الناس من مرض الدنيا.
ومن ميادين الإصلاح عند الغزالي وضع منهاج جديد للتربية والتعليم، فقد عدَّ الغزالي نظام التعليم القائم نظامًا فاسد الأهداف والغايات، ولا يُركِّز على خدمة أهداف الرسالة الإسلاميّة، لذلك حرّم الغزالي العمل في مدارس الدولة أو الدراسة فيها، وقام بتطبيق منهاجٍ بديلٍ لنظام التعليم القائم بمدرسته، غايته تخريج علماء آخرة يخدمون أهداف الدين.
كما انتقد الغزالي بشدّة السلاطين الظلمة، لدرجة أنّه حرّم التعامل معهم، وذلك لأنَّ أكثر مالهم حرام، كما حرّم التجارة في الأسواق التي بناها السلاطين الظلمة، كما حرّم التعامل مع الولاة والشرطة، حتى أنّه حرّم الانتفاع بالمرافق والمؤسسات التي بناها السلاطين الظلمة كالمساجد والسقايات، إلَّا على سبيل الحاجة الماسّة.
ولم يغفل الغزالي عن محاربة التيارات الفكريّة المنحرفة، التي استهدفت العقيدة الإسلاميّة من أصولها، وهما تيار الباطنيّة وتيار الفلاسفة. واعتمد الغزالي في محاربة هذين التيّارين على الأسلوب العلميّ القائم على الدراسة والاطِّلاع، وبذلك اقتلعهما من جذورهما حتى انتهى أمرهما.
يصعب الإحاطة بالآثار التي أحدثها الغزالي في المجتمع الإسلاميّ المُعاصر، ولكن يبقى واحد من أهمِّ آثاره التي تركها؛ هو منهجه في تطبيق مبدأ الانسحاب والعودة، الذي أصبح مثلًا احتذاه جمع غفير من مختلف المذاهب والجماعات الإسلاميّة. هذا بخلاف أثره في محمّد بن تومرت، الذي أدّت جهوده إلى قيام دولة الموحِّدين، في الجانب الغربيّ من العالم الإسلاميّ. هكذا فجَّر الغزالي حركة الإصلاح التي انتهت بدحر الغزاة الصليبيِّين واسترجاع الأرض والمقدَّسات.