عانى النشاط العلميّ الإسلاميّ الذي عاصر الحملات الصليبيّة الأولى من أمراض المذهبيّة والانقسام، والتي كان من أبرزها أنّ ولاء هذه الجماعات كان لانتماءاتها المذهبيّة أكثر من ولائها للفكرة التي حملتها، أو للأمّة التي تنتسب إليها، فالحنابلة أصيبوا بداء العُجب، وظنُّوا أنَّهم هم وحدهم أهل السُنّة والعقيدة الصحيحة، أمَّا الأشاعرة فعانوا من عقدة الاستعلاء الثقافيّ، فقد كانوا يرون أنفسهم أهل الثقافة والفكر، ويرمون الحنابلة بالسطحيّة وضيق الأفق.
أفرز هذا المفهوم المذهبيّ للإسلام، آثارًا خطيرة في ميادين الحياة المختلفة، فمن الناحية الفكريّة صارت المؤلَّفات تكرارًا لأفكار من سبقوا من رجال المذاهب، وظهرت كتب الطبقات المذهبيّة، ممَّا أفرز نوعًا من الإرهاب الفكريّ ضدّ المستنيرين من أعضاء المذاهب نفسها، وكان من يخرج على تقاليد المذهب، يُصبح هدفًا للاتِّهام بالنفاق، مثلما حدث مع الشيخ أبي الوفا عليّ بن عقيل شيخ الحنابلة في زمانه.
أمَّا من ناحية التعليم، فقد أدّى التعصب المذهبيُّ إلى فساد أهداف التعليم وغاياته، فقد أصبحت هذه الأهداف تدور حول تأهيل الدارسين لمناصب الإفتاء والقضاء والتدريس في الجامعات وغيرها. كما شاع أسلوب المناظرة والجدل الذي أصبح علمًا مستقلًا، وهو ما أدّى في النهاية إلى تسرُّب المذهبيّة الحزبيّة إلى صفوف الطلبة، فتحوَّلت مجالس الدرس إلى ميادين لمناظرة آراء المذاهب، وانقسم الطلَّاب إلى مجموعات تلتفُّ حول شيخ من مدرسيّ المذهب تُعظِّمه وتُبجّله دون تفكير، وهو ما تسبَّب في كثرة المصادمات وحوادث الشجار بين مجموعات الطلبة.
وبالنسبة لـ الآثار السياسيّة للتعصُّب المذهبيّ، فقد انتهت أهداف العمل الإسلاميّ عند مشاركة زعماء المذاهب في إدارات الدولة، وفوزهم بمناصب القضاء والأوقاف وغيرها، وأصبحت العلاقات بين المذاهب الإسلاميّة والحكومات القائمة، تتشكَّل حسب مواقف هذه الحكومات من تلك المذاهب، فإذا مكّنت الحكومة رجال المذهب من مناصب الدولة، أشاد أصحاب المذهب بعدل الدولة وخدمتها للإسلام، وإذا حدث العكس، تُصبح الحكومة هدفًا للتشهير والتجريح.
نشأ التصوُّف في البداية كمدارس تربويّة، هدفها تزكية النفس، وكانت لا تغلو في آرائها ولا تخرج عن قيد الشريعة في شيء، ولكنَّها تطوَّرت كما تطوَّرت المدارس الفقهيّة إلى مذاهب، وانقسمت إلى ثلاثة اتجاهات:
أوَّلها الملامتيّة، وكان أبرز روادها هو حمدون القصّار، الذي كان أحد أقواله: "الملامة هي ترك السلامة"، والذي اشتهر باليقظة الوجدانيّة ومراقبة النفس والحذر من الرياء، ولكن حينما أصبح تلميذه محمّد بن منازل، شيخ الملامتيّة من بعده، جعل دناءة النفس وتأصّل الشرّ فيها قاعدة أصيلة، حتى تطوّر الأمر أكثر، وخرجت الملامتيّة على تعاليم الشريعة واستباحت المحرَّمات.
الاتِّجاه الثاني من الصوفيّة، هم الحلوليُّون والخارجون على قواعد الشريعة، والذي يتمثّل بطوائف مختلفة، يجمعها الخروج على تعاليم الشريعة، ومنهم أتباع الحلَّاج الذين تداعوا لمناقشة القضايا التي صُلب من أجلها، حتى أنّ بعضهم انتهى إلى أنّ صَلْبَه كان من مقتضيات التضحيّة التي يفرضها مقامه، ومنهم أيضًا القلندريّة الذين لم يأتوا من العبادات إلَّا الفرائض، وأخذوا بالرخص ولم يتحرَّزوا من الشبهات.
أمّا التصوّف السُنِّيُّ، فكان هو الاتِّجاه الثالث للصوفيّة، وهو ما استطاع أن يتصّدى للتيّارات المنحرفة، وذلك من خلال مدرسة نيسابور التي قادها أبو نصر السراج، والتي كان نشاطها يقوم على تدوين التراث الصوفيّ حسبما أقرّ الشرع، وإبراز التصوّف السُّنِّيّ باعتباره عمليّة تزكية للنفس، تدعم الإيمان والتوحيد، وتُنقِّيه من شوائب الرياء، ذلك بالإضافة إلى مدرسة بغداد، التي كانت تسلك الاتجاه نفسه، والتي كان أبرز مشايخها هو جعفر بن محمّد الخلديّ. وبرغم نجاح التصوّف السُّنِّيّ في مهمته الفكرية، إلَّا أنّه ظلَّ مصابًا بالانقسام ونقصان التنظيم، وذلك بخلاف الخصومات التي قامت بين الفقهاء والمتصوِّفة، إلى جانب الفتن المذهبيّة، وانتشار طوائف الجهلة والسطحيِّين من الصوفيّة.
تعود الحركة الباطنيّة إلى القرن الرابع الهجريّ، حيث ضمَّت بين صفوفها جماعات مختلفة، يجمعها هدف مشترك هو إفساد العقيدة الإسلاميّة، وتدمير المؤسَّسة الحكوميّة التي تمثِّل هذه العقيدة، وكانت تضمّ الشاعر أبا العلاء المعريّ والعالم أبا حيّان التوحيديّ وغيرهم من الفلاسفة والمُفكّرين.
في النصف الثاني من القرن الخامس الهجريّ، أفرزت هذه الحركة جناحًا عسكريًّا إرهابيًّا بقيادة الحسن الصبّاح، والذي كان يستعين بالمخدّر أو الحشيش الذي يقدّمه للبسطاء من الناس، فإذا أصابهم الدوار، أمرهم بما يُريد منهم أن يفعلوه، ولذلك سُمّيت جماعته بالحشّاشين.
دخلت الفلسفة الحياة الفكريّة في العالم الإسلاميّ منذ القرن الثانيّ الهجريّ، ولكنَّها اتَّخذت طابعًا آخر منذ القرن الرابع الهجريّ، وهو تحدِّي العقيدة وفكرة النبوّة والرسالة في الإسلام، وهو ما جعل أعظم فلاسفة المسلمين ابن سينا يتصدَّى لمواجهة هذا الاتِّجاه. وضع ابن سينا الفيلسوف في مستوى النبيّ، وجعل الفيلسوف أعلى من العلماء الدينيِّين والمجتهدين الفقهاء، وأراد أن يتولَّى الفلاسفة مركز الإرشاد والتوجيه في المجتمعات.