نُشِرتْ توصيّات لجنة الأمم المتحدة بشأن تقسيم فلسطين في الثامن من أيلول عام ألف وتسعمائة وسبعة وأربعين، وهو ما وافق عليه الصهاينة كثيرًا، حتى وصلتْ أحداث التقسيم لذروتها في تشرين الثاني عام ألف وتسعمائة وسبعة وأربعين، عندما نُقِلتْ توصيّات التقسيم إلى لجنةٍ طارئةٍ للجمعيّة العامّة ليتمّ التصويت عليها من الدول الأعضاء، فنال التقسيم موافقة وتصويت خمسٍ وعشرين دولةً، ونال رفض ثلاث عشرة دولةً، وامتنعتْ سبع عشرة دولةً عن التصويت بشكلٍ نهائيّ، حتى أصبح عدد الرافضين للقرار والرافضين للتصويت ثلاثين دولةً يفوق عدد الموافقين على القرار، ولكنّ القرار رُفِع في النهاية للجمعيّة العامّة.
وعلى هذا، حاول الرئيس الأمريكيّ Harry Truman الحديث مع الدول المُعارِضة والرافِضة للتصويت، في العدول عن قرارها، بدايةً من اليونان وحتى أصغر الدول الأعضاء بالأمم المتَّحدة Haiti، وقد ثبُتت محاولات البيت الأبيض في أمريكا للتلاعب في التصويت، فيما ورَد في ملفّات وزارة الخارجيّة الأمريكيّة عن أنّ مندوب أحد دول أمريكا اللاتينيّة، قد تلقّى رشوةً بمقدار خمسة وسبعين ألف دولارٍ، لتغيير رأيه ورأي دولته من الرفض للقبول لصالح الدولة اليهوديّة. ومع تسرّب هذه الحقائق عن التلاعب بالتصويت للدول المناصرة لعرب فلسطين والرافضة للقرار، حاول المندوب اللبنانيّ والسوريّ مناشدة الدول الأخرى بإخبارهم بالقصّة الحقيقيّة عن أحقّية عرب فلسطين بدولتهم، وحثّهم على مواصلة التصويت ضدّ القرار دون التأثّر بمحاولات الصهاينة الوحشيّة بدعم البيت الأبيض لإقامة دولة يهوديّة.
ولكن في يوم السبت، التاسع والعشرين من تشرين الثاني عام ألف وتسعمائة وسبعة وأربعين، قامتْ دُوَل الأمم المتَّحدة بالتصويت على قرار تقسيم فلسطين، ورغم جميع محاولات العرب، أتى التصويت لصالح التقسيم، بصوتين فوق العدد المطلوب فعليًّا لتحقيق التقسيم، وذلك بعد عدول الفلبين ولَيْبِيرْيَا وHaiti عن قرارهما الأوّل والتصويت لصالح التقسيم ليصبح عدد الأصوات الموافقة ثلاثًا وثلاثين دولةً، والرافضة ثلاث عشرة دولةً، بينما امتنعتْ عشرُ دولٍ عن التصويت.
استقبل اليهود قرار التقسيم بفرحةٍ عارمةٍ جعلتْهم يرقصون في الشوارع، بينما بُهِتَ العرب ولجأوا للإضراب لثلاثة أيّامٍ، ولكن لمْ يبالِ بهم أحدٌ، حتى أنّ عرب حيفا في نهاية كانون الأوّل قد وقّعوا على هُدنةٍ مع جماعة اليهود الإرهابيّين Haganah وبدأوا بمغادرة حيفا خوفًا على حيواتهم، ومن يومها بدأتْ سلاسل هجمات من اليهود المتطرّفين من ثلاث جماعات: Haganah وIrgun وStern تتوالى على العرب الأبرياء في صدر عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين، حتى بلغ عدد العرب الفلسطينيّين الذين أُرغِموا على ترك بيوتهم بين عاميّ ألف وتسعمائة وسبعة وأربعين وألف وتسعمائة وتسعة وأربعين حوالي سبعين ألفًا، واستمرّتْ إسرائيل طوال سنوات عديدة، بِادِّعَاءِ أنّ تهجير العرب قسرًا ليس له علاقةٌ بخطّتهم في الاستيلاء على فلسطين كاملةً يومًا ما.
افترضتْ بعض الروايات التاريخيّة المغلوطة أنّ الدول العربيّة لمْ تقف عند ذلك، فجَمَعَتْ جيوشها من ستّ دولٍ عربيّةٍ بحلول عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين وخاضوا حربًا ضدّ الدولة اليهوديّة لتدميرها في يوم ميلادها الأوّل، ولكنها في الحقيقة، تَقَدَّمَتْ منذ بدء تهجير الإسرائيليّين للعرب غصبًا، لتعيد الأمور إلى نِصابها وتحمي العرب الفلسطينيّين من هجمات الدولة اليهوديّة التي أصبح Chaim Weizmann أوّل رئيسٍ لها. ولكن دون جدوى، فقد توالت هجمات الإرهاب اليهوديّ وعصاباتهم بطرقٍ أكثر وحشيّةً على العرب، ومنها مذبحة دير ياسين الفظيعة التي وقعتْ في التاسع من نِيِسَان عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين، وذُبِح فيها عرب أبرياء بدمٍ باردٍ كتحذيرٍ لبقيّة العرب الفلسطينيّين، لدفعهم إلى الفِرار، وتَرْكِ وطنهم دون رجعة أو القتل.
وبدأتْ عصابات اليهود، عندما لمْ تُقدِم جيوش العرب على حركةٍ فعّالة، بالاستيلاء على المدن الفلسطينيّة بالقوّة، وقتل أهلها واغتصاب أرضهم، بداية من يافا، ثمَّ القدس، ثمّ صَفَد وعكّا، وقصفوا مدينةَ طبرية بقذائف الهاون. وقد غادر آخر جنديّ بريطانيّ أرض فلسطين بعد أربعة أيّام من سقوط صَفَد وأعلن اليهود قيام دولة إسرائيل، وبعبارة أحد المؤرّخين: "إنّ البريطانيّين لمْ ينقلوا السُلطة، وإنّما تخلّوا عنها".
تعرَّف الكاتب "كارل صبّاغ" على يهودي من سكان فلسطين الأوّلين وليس المهاجرين، وقابله عند زيارته لفلسطين ليكون مرشده السياحيّ، وقد بدأ هذا اليهوديّ المَدْعُو ديڤيد يشرح لـكارل العديد من الحكايات عن تاريخ صَفَد، ويجوب معه مدن ومناطق فلسطين، متخيِّلًا ما كان يسمعه من أعمامه عن تاريخ فلسطين، وكأنها حقيقةً يراها أمامه.
وعاد الجيش الإسرائيليّ لِشَنِّ هجمات أعتى على مدنِ وعرب فلسطين في الفترة بين الخامس عشر من أيّار عام ألفٍ وتسعمائةٍ وثمانيةٍ وأربعين ميلاديًّا حتى فترة توقيع الهدنة الأخيرة في السابع من كانون الثاني عام ألفٍ وتسعمائةٍ وتسعةٍ وأربعين ميلاديًّا، حيث ضرب الجيوش العربية، ووسّع سيطرته خارج حدود الدولة اليهوديّة التي رُسِمتْ لهم. وكالعادة، حاولتْ الأمم المتّحدة إيقاف هذه النزاعات بطريقةٍ سِلميّةٍ بتوكيل الأمر إلى رئيس منظَّمة الصليب الأحمر السِوِيدِيّة، Count Folke Bernadotte، الذي نجح في إقناع الطرفين بتوقيع هُدنة في الحادي عشر من حزيران، ولكنّ الرئيس الإسرائيليّ سعى لتدبير مؤامرة لاغتيال Bernadotte، إذ اعتبره اليهود عقبة أمام مساعيهم لفرض سيطرتهم الكاملة على أرض فلسطين.
هذا ولمْ يفعل الفلسطينيّون شيئًا ليستحقّوا ما حلّ وما زال يَحِلُّ بهم وبأرضهم، فأيّ عاقلٍ سيثور إن سمع أحدًا يحاول لوم ألمانيا النازيّة عندما أبادت ستّة ملايين يهوديّ، لكنّ ألمانيا الحديثة قد بذلت جهودًا جادَّةً، وقدَّمت تعويضات ماليّة كبيرة، في اعترافٍ منها بمسؤوليّتها عمَّا حصل لليهود. وقد حان الوقت لكي تقوم دولة إسرائيل بمثل ذلك مع عرب فلسطين.