في التاسع عشر من شهر آب عام ألف وتسعمائة وتسعة وعشرين ميلاديًا، وصل إلى شخصٍ اشتراكيّ يُدعى Lord Passfield، وزير الشؤون الماليّة للمستعمرات في الدولة البِريطانيّة، رسالةٌ من Chaim Weizmann بلهجةٍ صهيونيّةٍ تُطالبه بإيقاف قرار الحكومة البريطانيّة بسحب السلاح من جميع ساكني فلسطين، سواء العرب أو اليهود، لفضّ أعمال الشغب، وطالَبه بجرأةٍ بتخصيص مبلغٍ لضحايا العنف من اليهود. وكانت هذه الرسالة بمثابة الرصاصة الأولى للحملة الصهيونيّة الرامِية لإحكام السيطرة على فلسطين. وعادت الحكومة البِريطانيّة لعادتها بتشكيل لجنةٍ للتحقيق في أعمال العنف الأخيرة برئاسة السير Walter Shaw، حيث أوصت اللجنة بعد التحقيق بإعادة توضيح الأهداف المُعيَّنة لحفظ حقوق العرب في قانون الانتداب، وإعادة النظر في سياسة الهجرة كذلك تبعًا للمقدرة الاقتصاديّة التي رأُوها حتى الآن في فلسطين والتي لن تحتمل هجرةً أكبر. فتشكّلت لجنة أخرى للبحث في هذا الأمر برئاسة السير John Hope-Simpson، والذي أوضح أن الفلسطينيين العرب يُحرَمون من حقوقهم في ممارسة نشاطاتهم الزراعيّة بسبب كثرة شراء أراضيهم وتقديمها لليهود. وهذا ما شجّع Lord Passfield على إصدار ما يُعرَف بالكتاب الأبيض في الحادي والعشرين من شهر تشرين الأول عام ألف وتسعمائة وثلاثين ميلاديًا.
ولكنّ Chaim Weizmann سارع بالاجتماع باللورد Passfield، ليطرح أمامه خططه لشراء أراضٍ بالأردن وتهجير جميع العرب الفلسطينيّين إليها، والاستيلاء على فلسطين بأكملها لليهود الصهاينة. وحينما أصرّ Passfield، على وضع الكتاب الأبيض نُصْب عينيه، مُقرِّراً أنّ للفلسطينيّين الحقّ في تقرير مصير أرضهم، ثارت عليه المنظمة الصهيونيّة، واستقال Weizmann وتَبِعَهُ العديد من قادة الصهاينة احتجاجًا على الكتاب الأبيض. وقامت مسيرةٌ في أمريكا تسبّ بريطانيا بأفظع الشتائم، ساخرين من Passfield؛ فتفادت الحكومة البريطانيّة الوضع، بالإعلان بعد ثلاثة أسابيع من إصدار الكتاب الأبيض، أنّه يُساء فهم بنود الكتاب، وأشاروا ببعض العبارات أنّ الوكالة اليهوديّة هي إحدى الجهات المعنيّة بالانتداب، رغم أنّها لا تتمتّع بذلك قانونيًّا، مما شجّع الصهاينة على إقامة عرض مُماثِلٍ لما فعلوه بـوعد Balfor، في كتابة وثيقة تتجاهل حقوق العرب المذكورة في الكتاب الأبيض، وتُشجِّع على المزيد من هجرة اليهود إلى فلسطين، وأرسلوها للحكومة البريطانيّة لإعلانها قسرًا.
وبهذا زادت حركة هجرة اليهود بين عام ألف وتسعمائة وواحد وثلاثين ميلاديًا وعام ألف وتسعمائة وستة وثلاثين ميلاديًا، فأصبح تعدادهم في فلسطين يشكّل نسبة ثلاثين بالمائة من عدد السكان، بعدد ثلاثمائة وأربعة وثمانين ألف يهوديّ، دون الاكتراث للقدرة الاستيعابيّة الاقتصاديّة لفلسطين. فانتفض العرب الفلسطينيّون حقًّا عام ألف وتسعمائة وثلاثة وثلاثين ميلاديًا في مظاهرات حاشدةٍ بعدما نفد صبرهم، أمام المباني الحكوميّة في حيفا ونابلس ويافا والقدس؛ ممّا أرغم الحكومة البريطانيّة على توسيع جهودها لتأسيس حكومةٍ مبدئيّةٍ تمثّل الشعب في فلسطين، كما حاولوا فعل ذلك من قبل في عام ألف وتسعمائة واثنين وعشرين ميلاديًا. فرفض العرب، ولكنّ الصهاينة هم مَن رفضوا هذا القرار هذه المرّة، وأجبروا البرلمان البريطانيّ على إلغاء المجلس التشريعيّ الفلسطينيّ. وتبعًا لذلك، ازداد تسليح اليهود في فلسطين بحجّة صدّ هجمات العرب، مما جعل اليهود يتمرّدون هذه المرّة على الحكم البريطانيّ. وأصبحت الدولة عام ألف وتسعمائة وستة وثلاثين ميلاديًا في أوج اضطراباتها، وهو العام الذي أنهى فيه والد الكاتب، عيسى صبّاغ، دراسته وحاول التقدّم للامتحانات النهائيّة، ولكنّ الاضطرابات منعته، حتى حصل على منحةٍ لدراسة التاريخ من الحكومة الفلسطينيّة في جامعة Exeter في بريطانيا، وحينها غادر فلسطين للأبد.
كَبُرَ العنف في فلسطين كثيرًا مع محاولات اليهود إبطال أيّ محاولات لحلّ المظالِم عن العرب، حتى نَشَبَ نزاعٌ أكبر في شهر نيسان، من عام ألف وتسعمائة وستة وثلاثين ميلاديًا، حينما قُتِل يهوديّان على الطريق بين نابْلس وطُولْكَرْم، فردّ اليهود في نفس الليلة بقتل اثنين من العرب، حتى وصل الخبر إلى يافا، واندلعت أعمال شغبٍ منها، مما اضطرّ الحكومة الفلسطينيّة إلى فرض حظر تجوال في يافا وتل أبيب، وتمّ إعلان حالة الطوارئ.
وأسّس العرب اللجنة العربيّة العُليا التي تضمّ عددًا من وجهاء العرب في فلسطين، وأصبحوا يؤرّقون اليهود بهذه اللجنة حتى نعتوهم بالحركة النازيّة. فأعلنت هذه اللجنة حالة الإضراب العامّ التي أفْضَت إلى قيام الثورة الفلسطينيّة الكُبرى، وعَمَدَ فيها العرب إلى إنشاء ميليشيّات مثل اليهود، يقومون من خلالها بسلسلةٍ من الهجمات على مستعمرات اليهود. فقامت الحكومة البريطانيّة ببعض الأعمال لردع العرب، ولكنّ أعداء بريطانيا استغلّوا الفرصة ونشروا حملات للتشهير بها في الصحف الإيطاليّة والألمانيّة، ممّا اضطر بريطانيا إلى إصدار بيانٍ تنفي فيه ما قيل عن أفعالها من "أعمالٍ وحشيّةٍ" ضدّ العرب.
في شهر آيار من عام ألف وتسعمائة وستة وثلاثين ميلاديًا، أرسلت بريطانيا بعثةً للبحث في أعمال الشغب، وتوضيح ما يُنسَب إليها ممّا نَفَتْهُ عن كونه أعمالًا وحشيّة ضدّ العرب. وتوصّلت البعثة إلى خيارات، من بينها تقسيم الدولة بين اليهود والعرب، ولكنّ هذا ما رفضه الصهيوني Vladimir Jabotinsky الذي أنشأ ميليشيّات اليهود، رفضًا تامًا.
ولكنّ لندن حينها كانت بالفعل تجهّز مُسْوَدَّةً لتحضير قرارها بشأن تقسيم الدولة، رغم تحذيرات رئيس الجامعة العبريّة في القدس Judah Magnes، من تبعاتِ ما قد يلحق بالأرض عند تقسيمها، والأخطار التي ستواجه اليهود والعرب. ولكنّ الكثير من قادة الصهيونيين كانوا سعيدين بقرار التقسيم، وكان أبرزهم Chaim Weizmann، مشيرًا إلى أنّهم سَيُرْسُون أصول اليهود أخيرًا في الأرض.