- ولا شك أن تأديب الولد وملاحقته منذ الصغر، هو الذي يعطي أفضل النتائج وأطيب الثمرات، بينما التأديب في الكبر فيه من المشقة لمن يريد الكمال والأثر.
ورحم الله من قال:
قد ينفع الأدب الأولاد في صغر وليس ينفعهم من بعده أدب
إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت ولا تلين – ولو لينته – الخشب
- ومن الأمور الهامة التي ينبغي أن يعلمها المربون في تأديب الولد على خصال الخير، وتعويده على مكارم الاخلاق، هو اتباع أسلوب التشجيع بالكلمة الطيبة حيناً، وبمنح الهدايا أحياناً، وانتهاج أسلوب الترغيب تارة، واستعمال طريقة الترهيب تارة أخرى، وقد يضطر المربي في بعض الحالات أن يلجأ الى العقوبة الزاجرة إذا رأى فيها مصلحة الولد في تقويم الانحراف والاعوجاج.
- روت كتب التاريخ والأدب أن المفضل بن زيد، رأى في مرةٍ ابن امرأة من الأعراب، فأعجب بمنظره، فسألها عنه فقالت: «إذا أتم خمس سنوات أسلمتُه إلى المؤدب، فحفظ القرآن فتلاه، وعلمه الشعر فرواه، ورغب في مفاخر قومه، ولقن مآثر آبائه وأجداده، فلما بلغ الحُلم حملته على أعناق الخيل، فتمرس وتفرس، ولبس السلاح، ومشى بين بيوت الحي، وأصغى إلى صوت الصارخ»
وهذا هو التلقين والتعويد بمعناهما المرادين، أو إن شئت فقل هذان هما الجانبان: النظري والعملي في تكوين الولد وإعداده وتأديبه، وتهيئته ليكون رجل العقيدة والعمل والجهاد
- إنّ تغيير البيئة لا يقل أهمية عن الأسس الأخرى في إصلاح الفرد وهدايته،
وتربيته وإعداده، وإلا فلماذا أذِنَ الله سبحانه لرسوله عليه الصلاة والسلام بالهجرة إلى المدينة
المنورة؟
ولماذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يهاجروا؟
أليس من أجل التكوين والإعداد في بيئة صالحة لا يباح في نواديها المنكر، ولا تقترف في ربوعها الآثام والمحرمات؟
وكما جاء في حديث الرجل الذي قتل مائة نفس، وجاء يسأل أعلم أهل أرض هل له من توبة؟ فكان جواب السائل له:
"انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرض قومك فإنها أرض سوء".
- وعلينا أن نعلم أن المربي إن لم يتحقق بما يقول، وإن لم يطبق ما يعظ الناس به، فلا أحد يقبل كلامه، ولا إنسان يتأثر بموعظته، بل يكون محل نقد العامة، واستهزاء الخاصة، واستهجان الناس لندائه أجمعين، لأن الكلمة التي لا تنبعث من القلب لا تنفذ إلى القلب، والموعظة التي لا تمتزج بالروح لا تؤثر في النفس.
وقد قال عمر بن ذرّ لأبيه: "يا أبت، مالك إذا تكلّمت أبكيت الناس، وإذا تكلّم غيرك لم يبكهم؟" فقال: "يا بنيّ، ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة"
- التعزيرات هي عقوبات غير مقدّرة، تجب حقاً لله أو لآدمي في كل معصية ليس فيها حدّ ولا كفارة، وهي كالحدود في الزجر والتأديب الاستصلاحي للأمة.
وإذا كانت العقوبة التعزيرية غير مقدرة، فللحاكم أن يفرض العقوبة التي يراها مناسبة فقد تكون توبيخاً، وقد تكون ضرباً، وقد تكون حبساً، وقد تكون مصادرة، على ألا تبلغ حدا من الحدود.
وهذا هو معنى قوله تبارك وتعالى:
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة-179)
- معظم علماء التربية الحديثة بأمريكا ينفرون من فكرة عقوبة الأولاد، ويكرهون ذكرها على اللسان، بل ونشروا من التوعية، ووضعوا من النظم ما يكفل هذا الاتجاه، وما يحقق هذه الرغبة، فكان من نتيجة ذلك أن نشأ عندهم جيل منحل مائع متفلت من المسؤولية، متعطّش للفساد والإجرام. وهذا ما حدا بالرئيس السابق «كنيدي» بأن يصرح عام1962، بأنّ مستقبل أمريكا في خطر، لأن شبابها مائع منحل غارق في الشهوات، ولا يُقدّر المسؤولية الملقاة على عاتقه، وأن من بين كل 7 شبان يتقدمون للتجنيد، يوجد ستة غير صالحين، لأن الشهوات والتفلّت من قيود المسؤولية والأخلاق، أفسدت عليهم لياقتهم الطبية والنفسية.
- الأولاد يتفاوتون فيما بينهم، ذكاء، ومرونة، واستجابة، كما أن أمزجتهم تختلف على حسب الأشخاص، فمنهم صاحب المزاج الهادئ المسالم، ومنهم صاحب المزاج المعتدل، ومنهم صاحب المزاج العصبي الشديد، وكل ذلك يعود إلى الوراثة، وإلى مؤثرات البيئة، وإلى عوامل النشأة والتربية. فبعض الأطفال ينفع معهم النظرة العابسة للزجر والإصلاح، وقد يحتاج طفل آخر إلى استعمال التوبيخ في عقوبته، وقد يلجأ المربي الى استعمال العصا في حالة اليأس من نجاح الموعظة، واستعمال طريقة التوبيخ والتأنيب.
وعند كثير من علماء التربية الإسلاميين - ومنهم ابن سينا والعبدري وابن خلدون - أنه لا يجوز للمربي أن يلجأ إلى العقوبة إلا عند الضرورة القصوى، وألا يلجأ إلى الضرب إلا بعد التهديد والوعيد وتوسط الشفعاء، لإحداث الأثر المطلوب في إصلاح الطفل، وتكوينه خلقياً ونفسياً.
- قرر ابن خلدون في مقدمته أن القسوة المتناهية مع الطفل تعوده الخور، والجبن، والهروب عن تكاليف الحياة، فمما قاله: "من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم، سطا به القهر، وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحمله على الكذب والخبث خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة، ولذلك صارت له هذه عادة وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له".
- وكم يكون المربي موفقا وحكيما حينما يضع العقوبة موضعها المناسب، كما يضع الملاطفة واللين في المكان الملائم؟
وكم يكون المربي أحمق جاهلا حينما يحلم في موضع الشدة والحزم، ويقسو في مواطن الرحمة والعفو؟
ورحم الله من قال:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
- ولا شك أن الأولاد يختلفون فيما بينهم أميالًا وذكاءً وطاقةً واعتزازًا. فالرجل الحكيم أو الأب الحصيف هو الذي يضع الولد في المكان المناسب الذي يتفق مع ميوله، وفي البيئة الملائمة التي يصلح أن يكون فيها.
فإن كان الولد من النوع الذكي وعنده الرغبة الأكيدة في متابعة الدراسة وإتمام التحصيل، فعلى المربي أن يسهل له الأسباب للوصول إلى غايته وتحقيق أمله.
وإن كان الولد من النوع المتوسط ذكاءً، وعنده الميل إلى تعلم صنعة من الصناعات، أو مهنة من المهن، فعلى المربي أن ييسر له الأمور حتى يصل إلى هدفه المنشود.
وإن كان الولد من النوع البليد، فعلى المربي أن يوجهه إلى عمل يتفق مع عقليته، ويتلاءم مع مزاجه واستعداده.
وهذا هو معنى قول عائشة رضي الله عنها فيما رواه مسلم وأبو داود:
«أمرنا رسول الله ﷺ أن ننزل الناس منازلهم».
- وما أحسن ما فعله عمر رضي الله عنه حين علم أن أبًا لم يقم بحق ولده عليه في انتقاء أمه، وتحسين اسمه، وتعليمه القرآن، فلم يلبث إلا أن صرخ في وجهه قائلًا:
"جئت إليَّ تشكو عقوق ولدك وقد عققته قبل أن يعقَّك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك!!"
فجعل رضي الله عنه الأب حين أهمل تربية ولده، هو المسؤول الأول عن عقوقه وانحرافه!
أما ما يدعيه بعض الآباء أن أولادهم نشأوا عاقين منحرفين على الرغم مما قاموا به من مسؤولية التربية والتأديب، فهي دعوى مرفوضة، لأننا لو بحثنا عن السبب لرأينا أن السبب يعود على الآباء والأمهات أنفسهم، إما لإعطائهم الأولاد القدوة السيئة، أو لعدم أخذهم منهج الإسلام في التربية، أو إهمالهم حقًا ألزمهم الإسلام به وفرضه عليهم!!"
- وأحيانًا قد تتخلف القاعدة، فيبذل المربي قصارى جهده، ويأخذ بمناهج التربية الإسلامية، ومع هذا ينشأ الولد على الشذوذ والانحراف، كما أخبرنا الله سبحانه عن ولد نوح عليه السلام. فأنى الهداية والتربية النبوية واستنكر وكان مع الكافرين، فعاقبه الله معهم بالطوفان فأصبح الجميع من المغرقين.
وفي هذه الحال يعذر المربي أمام الله لأنه أدى ما عليه من الحقوق وقام بما أوجبه الله عليه من مسؤوليات.