لا شك في أن المربي الواعي المنصف يستزيد دائماً في الوسائل المجدية والقواعد التربوية المؤثرة في إعداد الولد عقدياً وخلقياً، وفي تكوينه علمياً ونفسياً واجتماعياً حتى يبلغ الولد أسمى آيات الكمال وأعلى درجات النضج، وأزهى مظاهر التعقل والاتزان٠
ولكن ما هي هذه الوسائل المجدية، والقواعد التربوية المؤثرة في تكوين الولد وإعداده؟
في تقديري أنها تتركز في أمور خمسة:
القدوة في التربية هي من أنجح الوسائل المؤثرة في إعداد الولد خلقياً وكذلك تكوينه نفسياً واجتماعياً، ذلك لأن المربي هو المثل الأعلى في نظر الطفل، والأسوة الصالحة في عين الولد، يقلده سلوكيًا، ويحاكيه خلقيًا من حيث يشعر أو لا يشعر، بل تنطبع في نفسه وإحساسه بصورته القوية والفعلية والحسية والمعنوية من حيث يدري أو لا يدرى٠
ومن هنا كانت القدوة عاملاً كبيرًا في صلاح الولد أو فساده، فإن كان المربي صادقًا أمينًا خلوقًا كريمًا شجاعًا عفيفًا، نشأ الولد على الصدق والأمانة والخلق والكرم والشجاعة والعفة، وإن كان المربي كاذبًا خائنًا متحللًا بخيلًا جبانًا نذلًا، نشأ الولد على الكذب والخيانة والتحلل والجبن والبخل والنذالة.
أي أنّ الولد مهما كان استعداده للخير عظيماً، ومهما كانت فطرته نقيه سليمة، فإنه لا يستجيب لمبادئ الخير وأصول التربية الفاضلة ما لم يراعِ المربي في دوره الأخلاق والقيم والمثل العليا.
من السهل على المربي أن يلقن الولد منهجاً من مناهج التربية، ولكن من الصعوبة أن يستجيب الولد لهذا المنهج حين يرى من يشرف على تربيته وهو يقوم على توجيهه غير متحقق بهذا المنهج وغير مطبق لأصوله ومبادئه.
ولقد علم الله -سبحانه وتعالى- وهو يضم لعباده المنهج السماوي المعجز، أن الرسول المبعوث من قبله بأداء الرسالة السماوية لأمة من الأمم، ينبغي أن يكون متصفاً بأعلى الكمالات النفسية والخلقية والعقلية، حتى يأخذ الناس عنه ويقتدون به ويتعلمون منه ويستجيبون إليه، وينهجون نهجه في المكارم والفضائل والخلق العظيم.
ومن أجل هذا كانت النبوة تكليفية ولم تكن اكتسابية لأن الله _سبحانه وتعالى_ أعلم حين يجعل رسالته، وهو أدرى بمن يصطفي من البشر ليكونوا رسلاً مبشرين ومنذرين٠
لذلك بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، ليكون للمسلمين على مدار التاريخ القدوة الصالحة وللبشرية في كل زمان ومكان السراج المنير والقمر الهادي.
ومما يدل على تأديب الله له، وأنه -صلى الله عليه وسلم- محوط بالعناية الربانية، اتصافه بصفات النبوة الأساسية قبل النبوة وبعدها. فمن المعلوم يقينًا أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقترف إثماً من آثام الجاهلية، بل كان معروفاً بالمتعفف الطاهر.
أما من ناحية صدقه وأمانته فكانت الجاهلية تناديه بالصادق الأمين، وهي التي قالت له في مجمع كبير من الناس: "ما جربنا عليك كذباً".
وإذا كان الله _سبحانه وتعالى_ قد خص" نبيه _عليه الصلاة والسلام_ بهذا الخلق العظيم، وميزه بهذه الأسوة الحسنة فمن الطبيعي أن تنجذب القلوب له، وأن تتأسى النفوس به، وأن يجد الناس في شخصية النبي _صلى الله عليه وسلم_ القدوة الكاملة، والمثل الأعلى في كل ما يرتبط بحياتهم الدينية والدنيوية والاجتماعية، بل كان الذين عاينوا عصر النبي _صلى الله عليه وسلم_ واجتمعوا بالرسول _عليه الصلاة والسلام_ من أقوى الذين شغفوا له إيماناً وحباً، بل لا صبر لهم إذا لم يشهدوا محياه ولا تطيب نفوسهم إذا لم تكتحل عيونهم برؤياه، لشدة شغفهم به، ومحبتهم إياه.
روى الإمام البغوي عن ثوبان مولى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وكان شديد الحب لرسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه، فقال له رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: ما غير لونك؟ فقال: يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة فأخاف ألا أراك، لأنك ترفع مع النبيين، وإني إن دخلت الجنة فأنا في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبداً، فنزلت الآية:
(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) [النساء:69].
ومن أراد أن يعرف شيئاً عن تأسي أصحاب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بنبيهم وعن أثره _صلوات الله وسلامه عليه_ في نفوسهم، وعن التحول الذي أحدثه في واقعهم، فليستقرئ التاريخ ليسمع الكثير عن جميل مآثرهم، وكريم فضائلهم، وما زالت الأجيال المسلمة في كل زمان ومكان يرون من صحابة رسول الله -_صلى الله عليه وسلم_ القدوة الصالحة في العبادة والأخلاق، والشجاعة والثبات، والعزم والمضاء، والتعاطف والإيثار، والجهاد ونيل الشهادة، وما زال شباب الإسلام في كل عصر يستقون من معين فضائلهم، ويستضيئون بنور مكارمهم، وينهجون في التربية نهجهم، ويسيرون في بناء المجد سيرهم، كونهم خير القرون همة، وأفضل العصور قدوة، من هذه القدوة الصالحة التي تجسدت في صحابة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وممن تبعهم بإحسان، فقد انتشر الإسلام في كثير من الممالك النائية، والبلاد الواسعة البعيدة في شرق الدنيا وغربها.
وصل الإسلام إلى كل هذه الأمم بواسطة تجار مسلمين، ودعاة صادقين، أعطوا الصورة الصادقة عن الإسلام في سلوكهم وأمانتهم، وصدقهم ووفائهم، ثم أعقب ذلك الكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، فدخل الناس في دين الإسلام أفواجا، وآمنوا بالدين الجديد عن اقتناع وإيمان ورغبة، ولولا أن يتميز هؤلاء التجار الدعاة بأخلاقهم، ويعطون القدوة بين أولئك الأقوام بصدقهم وأمانتهم، ويعرفون لدى الغرباء بلطفهم وحسن معاملتهم لما اعتنق الملايين من البشر هذا الإسلام، ولما دخلوا في هديه ورحمته.
والذي نخلص إليه بعد ما تقدم أن القدوة في الإسلام هي من أعظم وسائل التربية ترسيخاً وتأثيراً فالطفل حين يجد من أبيه ومربيه القدوة الصالحة في كل شيء فإنه يتشرب مبادئ الخير، ويتطبع على أخلاق الإسلام، وحين يريد الأبوان أن يتدرج طفلهما على خلق الصدق والأمانة والعفة والرحمة ومجانبة الباطل، فعليهما أن يعطيا من أنفسهما القدوة الصالحة في فعل الخير، والابتعاد عن الشر؛ في التحلي بالفضائل، والتخلي عن الرذائل، في اتباع الحق ومجانبة الباطل، في الإقدام نحو معالي الأمور والترفع عن سفاسفها.