حركة التنوير: كانت أوروبا تتحوَّل من مجتمعات زراعيَّة تقليديَّة إلى مجتمعات تجاريَّة، ثمَّ صناعيَّة لتدخل بالتدريج في العصر الحديث، وعلى المستوى الفكريّ عبَّرت هذه التحويلات عن نفسها في الإصلاح الدينيّ، ثمَّ الفلسفة الإنسانيَّة في عصر النهضة ثمَّ في الفلسفة العقلانيَّة التي تعرف باسم حركة التنوير، ومع تفاقم الأزمة في المجتمعات الغربيَّة ظهر أيضًا الفكر المعادي للتنوير، وتأثَّرت الأقليَّات اليهوديَّة في العالم بنفس التغيُّرات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة التي خضع لها المجتمع.
أهمُّ عناصر البانوراما التي أدَّت إلى ظهور حركة التنوير:
المسألة اليهوديَّة وتحديث اليهود "الانعتاق":
كانت الدولة الحديثة تحاول توحيد السوق القوميَّة والسيطرة على ثرواتها الطبيعيَّة والبشريَّة؛ عن طريق إلغاء نظم الضرائب المحليَّة وتوحيدها، وتوحيد الهيكل القانونيّ للدولة وتحقيق الاندماج الاقتصاديّ والحضاريّ، وفصل الدين عن الدولة.
والمسألة اليهوديَّة: هي نتاج عمليَّة اجتماعيَّة مركَّبة؛ فمشكلة الأقليَّات والطبقات هي دينيَّة مرتبطة ببناء المجتمع التقليديّ، ومع دخول العصر الحديث تطلَّب الأمر من أعضاء الأقليَّة أن يعيدوا صياغة أنفسهم، بما يتَّفق مع ديناميكيَّات المجتمع الجديد.
وكان التناقض في أوروبا يُحسَم إمَّا بطرد اليهود، أو باندماجهم واستيعابهم في مجتمعاتهم، أي أنَّ اليهود كانوا يحلّون المشكلة بالعودة إلى الماضي عن طريق الهجرة إلى شرق أوروبا، أو بالولوج إلى المستقبل عن طريق الاندماج.
ونطلق على محاولة دمج اليهود سياسيًّا في مجتمعاتهم "حركة الانعتاق"، وهي حركة تحديث أو تعصير للمجتمع ولكنَّ الدولةَ التي فصلت نفسها عن الدين، والتي منحتهم هذه الحقوق، طلبت منهم أن يقوموا بدورهم بأن يفصلوا حياتهم داخل الدولة كمواطنين بعيدًا عن انتماءاتهم الدينية أو أيّة انتماءات أخرى تتعارض مع الانتماء القوميّ.
ورغم الادعاءات الصهيونيَّة، منحت معظم دول أوروبا اليهود حقوقهم المدنيَّة والسياسيَّة، وحقَّق اليهود قدرًا كبيرًا من الانعتاق والتحرُّر والاندماج داخل الدول.
وهذه بعض التواريخ المهمَّة الخاصَّة بإعطاء اليهود حقوقهم:
-(7/ 1/ 91) المجلس الوطنيّ الفرنسيّ يمنح اليهود الجنسيَّة الفرنسيَّة، والحقوق المدنيَّة الكاملة.
-(7/ 1/ 98) انتخاب أوَّل رئيس يهوديّ للبرلمان في الأراضي المنخفضة.
-(8/ 1/ 87) معاهدة برلين تلغي كلَّ القوانين التي تحدُّ من حرِّيَّة اليهود في رومانيا وبلغاريا.
وقامت في المجالات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والحضاريَّة محاولات مماثلة لدمج اليهود، كان يطلق عليها "إنتاجيَّة اليهود"، وكانت هذه الإنتاجيَّة فاشلةً في روسيا وجليشيا، وانتهت بالنجاح النسبيّ في فرنسا.
وقد انقسم يهود فرنسا إلى سفارد وأشكناز، أمَّا السفارد فكانوا من أصلٍ لاتينيٍّ أسبانيٍّ برتغاليٍّ، وأمَّا الأشكناز فكانوا من أصلٍ سلافيّ أو ألمانيّ، وكان يهود سفارد من الأثرياء الذين يعملون بتجارة الجملة والتجارة الدوليَّة، والأشكناز يقومون بمهنٍ هامشية مثل: التجارة البدائيَّة أو الإقراض الربويّ لصغار الفلاحين، ولذا؛ كانوا محطَّ احتقار الجماهير وسخريتِهم، ولم يسمح لهم بالعمل بالزراعة أو أيَّة حرفٍ سوى صياغة الذهب.
وحينما ظهرت المسألة اليهوديَّة في فرنسا، لم تظهر على أنَّها مسألة يهوديَّة عامَّة أو عالميَّة، بل طُرحت ونوقِشت على أساسِ أنَّها مسألة اليهود الأشكناز، وطالب اليهود بحقوقهم وبحقِّ المواطنة وبحقِّ الإبقاء على الاستقلال في مؤسَّسة القتال، وعلى الرغم من هذه الادِّعاءات، أصدرت الثورة الفرنسيَّة عدَّة قوانين كان من شأنها إعطاء الأقليَّات غير الكاثوليكيَّة بما في ذلك اليهود حقوقَهم، والقضاء على عزلتهم الاقتصاديَّة والدينيَّة.
ومن هنا كان توجُّه نابليون إلى المسألة اليهوديَّة، وإصراره على تحويل اليهود من جماعة هامشيَّة من الناحية الإنتاجية والحضاريَّة إلى جماعة منتجة ذات انتماء حضاريٍّ، وكلُّ ذلك لتحديث اليهود وإنهاء عزلتهم ودمجهم في المجتمع، ولذلك دعا نابليون مجلسًا سماه السنهدرين إلى مناقشة المسألة اليهوديَّة، وكانت نتيجة انعقاد المجلس "التنظيمات العضويَّة للديانة الصهيونيَّة ".
وقد قُسِّمت فرنسا بمقتضى هذا التنظيم إلى مناطق تضمُّ كلُّ واحدة ألفَي يهوديٍّ، يشرف عليها مجلسٌ يتكوَّن من حاخام كبير وحاخام آخر وثلاثة يهود يتمُّ اختيارهم بالانتخاب، أي أنَّ اليهود أصبح لهم كيان رسميٌّ داخل الدولة وحصلوا على حقوقهم.
وأصدر نابليون قانونًا آخر لتنظيم حياة اليهود الاقتصاديَّة، فألغى الأمر بتجميد ديون اليهود وصدرت قوانين لتحكم سلوك المرابين اليهود ولتحديث سعر الفائدة، وحَرَّم على اليهود الاشتغال بالتجارة دون الحصول على رخصةٍ وشهادةٍ تفيد بأنَّ اليهوديَّ لا يمارس الربا، ولا يقوم بأيَّة أعمالٍ أخرى غير قانونيَّة، ويقدِّم شهادة أخرى من القهال تدلُّ على حسن السير والسلوك.
وقد أطلق اليهود على هذه القوانين "القرار الشائن"؛ لأنَّها سبَّبت الكثير من المشقَّة لليهود، وميَّزت بينهم وبين المواطنين، وقد يكون في هذا الادعاء شيئًا من الحقيقة، ولكنْ كان هدف هذه القوانين تيسير عمليَّة دمج اليهود داخل فرنسا، وإذا كانت عمليَّة دمج يهود الألزاس واللورين واجهت عدّة صعوبات؛ فقد قامت الحكومة بتذليلها عن طريق سنّ وتنفيذ القوانين الصارمة، وكانت الأمور أكثر تعقيدًا في شرق أوروبا؛ نتيجةً لأسبابٍ حضاريَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة متشابكة، فبدأ اليهود يواجهون مشكلة التأقلم مع الاقتصاد الجديد، وطرحت قضيَّة "إنتاجيَّة اليهود".
أمَّا بالنسبة لـ جليشيا وهي منطقة في وسط أوروبا تبعٌ لبولندا تضمُّ تسعةً وستَّةَ أجزاء من العشرة بالمِئة (9.6 %) من اليهود، وكان النبلاء الإقطاعيُّون في جليشيا يحقِّقون الجزء الأكبر من دخلهم عن طريق الضرائب المفروضة على الخمور، وكانت ضريبة الخمور تمثِّل الثلث وأحيانًا نصف دخل النبيل الإقطاعيّ، لذا؛ كانت تُفرض على الفلَّاحين حصَّةٌ معيَّنةٌ من المشروبات الروحيّة، وكان النبيل يدفع للفلَّاح جزءًا من محصوله على هيئة سندات يستبدل بها خمورًا يشربها في الحانة، وأصبح سُكْر الفلَّاحين إحدى المشاكل الأساسيَّة للنظام الاقتصاديّ في مرحلة الإقطاعيَّة ثمَّ الرأسماليَّة، وأصبح السُّكْر معوِّقًا يقف أمام تقدُّم المجتمع.
ولعلَّ محاولات الحكومة النمساويَّة لفرض الانعتاق من أصدق المحاولات في هذا المضمار، حيث قرَّرت منع اليهود من الاشتغال بالتجارة وتشجيعهم على الاشتغال بالزراعة، ثمَّ أصدرت الحكومة النمساويَّة ما يسمَّى "ببراءة التسامح" لنفس الغرض، وحرَّمت براءة التسامح على اليهود أن يحصلوا على امتيازات جمع ضرائب أو تأجير شيء، وحرَّمت عليهم بيع الخمور، ثمَّ اتَّسع نطاق التحريمات ليحرِّم على اليهوديِّ الساكن في المناطق الريفيَّة العمل إلَّا بالزراعة.
وألغت الحكومة المحاكم الحاخاميّةَ الخاصَّة باليهود الأمر الذي قَلَم أظافر سلطة القهال، ومنع اليهود من ارتداء أزياء مميَّزة، وصاحب هذه التحريمات منح اليهود سلسلة من الحقوق، فأُلغي القرار الذي ينصّ على تنظيم الزيجات اليهوديَّة، وترحيل الشحَّاذين بالقوَّة إلى الحدود البولنديَّة، ومُنِح اليهود حقَّ الاشتغال بأيَّة مهنة أو حرفة يختارونها، وشراء منازل الملَّاك المسيحيِّين، وأن يشغلوا أيَّةَ وظيفة مدنيَّة أو عسكريَّة، كما فتحت المدارس والمعاهد العليا أبوابها أمامهم، وفرضت عليهم الحكومة اختيار أسماءٍ ألمانية جديدة واسم أسرة بدلًا من التقاليد اليهوديَّة، وكان على التجَّار اليهود كتابة حساباتهم بالألمانيَّة.
وهنا ازدادت شكوى اليهود بأنَّه لا جذور لهم، وأنَّهم يعيشون في جهل مُطبق، غيرَ قادرين على القيام بأيَّةِ حرفة أو مهنة، وأنَّهم لا يعملون بالزراعة، وهم متمركِزون في صناعة الخمور، فأخذوا يلعبون بالتهريب ويتلاعبون بالأسعار، الأمر الذي جرَّ عليهم حَنَقَ التجَّار المحلِّيِّين، وقد كُوِّنت لجنةٌ لبحث المسألة اليهوديَّة وحين طلبت اللجنة من زعماء القهال أن يحدِّدوا رأيهم في الإصلاحات؛ جاء ردُّ هيئات القهال غريبًا لا معنى له، وصدَّرته بمطلبين، وهما: تأجيل الإصلاحات لمدَّة تتراوح بين عشرة أعوام وخمسة عشر عامًا، وألَّا يُحرَمَ اليهود من تأجير حقِّ بيع الخمور، وهنا قرَّرت الحكومة أن تستمرَّ في مناقشة الإصلاحات دون الرجوع إليهم، وأصدرت اللجنة قراراتِها.
وأصدر القيصر التشريع الخاصَّ باليهود و أطلق عليه "دستور اليهود"، وهو دستورٌ حاول فرض الأزياء العصريَّة على اليهود، فسمح للتلاميذ اليهود بالظهور بملابسهم اليهوديَّة في المدارس الابتدائيَّة، ولكنْ في الثانويَّة والجامعات عليهم أن يرتدوا زِيًّا أوروبيًّا، وطلب من الحاخامات وقيادات القهال وممثِّلي اليهود في البلديَّات ارتداء زيٍّ روسيٍّ أو بولنديٍّ أو ألمانيّ، وفرض عليهم أن يتعاملوا بإحدى اللغات الأوروبيَّةِ المعروفة في هذا المكان من العالم وهي الروسيَّةُ أو البولنديَّةُ أو الألمانيَّةُ، ونصَّ الدستور على ضرورة إتمام الأعمال التجاريَّة بواحدةٍ من هذه اللغات.
وحاولت روسيا إنشاء مدارس علمانيَّة للمساعدة على اندماج اليهود في المجتمع، وأُطلق على المدارس الجديدة اسم "مدارس التاج"، أمَّا في المجال الاقتصاديِّ فقد حاول المُشرِّعون الروسُ تحويل اليهود إلى قطاع اقتصاديٍّ مُنتِج، وأُعفي اليهود المزارعون من الضريبة المزدوجة، أمَّا عن القانون الخاصِّ بالصناعة فقد قُدِّمت قروضٌ لمن يريدون العمل بالصناعة وأُعفُوا أيضًا من الضريبة المزدوجة، أمَّا الحِرَفيُّون فقد أُعفُوا كذلك من الضرائب الخاصَّة باليهود، وسمح لهم بالعمل في كلِّ الحِرف، وحاولت الحكومة الروسيَّة أن توفِّر عمل الحِرفيِّين الذين لم يعثروا على عمل.
حركة التنوير اليهوديَّة
لم تكن استجابة اليهود لهذه الريح التي هبَّت عليهم استجابةً سلبيةً بل نجد أنَّهم قد تأثَّروا بها، فأصبحت لهم حركاتهم العقلانية المستنيرة المعروفة "بالهسكلاء" وهي كلمة عبريَّة تعني التنوير، وكانت تنادي بأنَّ اليهود عليهم أن يحاولوا الحصول على حقوقهم المدنيَّة كاملة عن طريق الاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها، وأن يكون ولاؤهم الأوَّل والأخير للبلاد التي ينتمون إليها، وليس لقوميَّتهم الدينيَّة التي لا تستند إلى سندٍ عقليٍّ ولا موضوعيّ، وقد بدأت حركة التنوير اليهوديَّة في ألمانيا.
وكان دعاة التنوير بين اليهود اختاروا طريقًا وسطًا بين الانصهار الكامل والانفصال الكامل، وكانت قضيَّة التعليم هي القضيَّةُ الأساسيَّةُ بالنسبةِ إليهم بسبب إغراق الجماعات اليهوديَّة في الرجعيَّة والتخلُّف.
ويُعَدُّ موسى مندلسون فيلسوفَ التنوير اليهوديّ بالدرجة، والذي حاول أن يحطِّم الجيتو الخارجيَّ والداخليّ، وحاول أن يعيد تعليم إخوانه في الدين حتَّى مكَّنهم من الاندماج مع بقيَّة الشعوب، فقام بترجمة "أسفار موسى الخمسة" إلى الألمانيَّة ليقضيَ على عزلة اليهود الموضوعيَّة والنفسيَّة، وأنشأ مدرسةً في برلين للأطفال اليهود لتعليمهم الألمانيَّة، فتَركت فلسفةُ مندلسون أثرًا عميقًا على الفكر اليهوديِّ.
وقام الإصلاحيُّون بإلغاء الصلوات التي لها طابع قوميٌّ يهوديٌّ، وجعلوا لغة الصلاة هي الألمانيَّةَ بدلًا من العبريَّة، وأدخلوا الموسيقى والأناشيد الجماعيَّة، كما سُمح باختلاط الجنسين في الصلاة، وقام بعض الإصلاحيِّين ببناء بيت للعبادة أطلقوا عليه اسم "الهيكل"، وهي المرَّة الأولى التي استخدم فيها هذا الاسم؛ لأنَّه كان لا يطلق إلَّا على الهيكل الموجود في القدس.
ونال اليهود قسطًا لا بأس به من الحرِّيَّة السياسيَّة والاقتصاديَّة، ولكنْ مع هذا لم يُقَدَّرْ "لحركة الانعتاق" النجاحُ الكامل لما واجهته من صعاب كبيرة؛ وعلى سبيل المثال بعد أن فتحت حكومة النمسا بالتعاون مع القهال عدَّة مدارس لتعليم اليهود، واستقدمت لها مدرِّسين يهودًا من ألمانيا؛ قوبِلت هذه المحاولة بمعارضةٍ حادَّةٍ من قِبَل المواطنين اليهود، فأغلقت هذه المدارس وأعيدت كلُّ المدارس للكنيسة الكاثوليكيَّة، وعلى الرغم من أنَّ المدارس الثانويَّة والجامعاتِ فُتحت لليهود فإنَّ عدد من التحق بها لم يتعدَّ مِئةً وثمانيةً وخمسين طالبًا (١٥٨) يهوديًّا فقط.
لكنَّ الوضعَ داخل روسيا هو الذي أدَّى بالدرجة الأولى إلى "تفجير المسألة اليهوديَّة" على صعيد العالم الغربيّ؛ فقد قاوم يهودُ روسيا محاولاتِ الدمج والتي أشرنا إليها من قبل، ففي مجال التعليم رفضوا الالتحاق بالمدارس العلمانيَّة، ولم تنجح محاولات الدمج على المستوى الاقتصاديِّ أيضًا.
وقدَّمت اللجنةُ المكلَّفة بإعادة النظر في المسألة اليهوديَّة عِدَّةَ توصيَّات، نفَّذها القيصر في صورة إجراءات مؤقَّتة تسمَّى "قوانين مايو" وأهمُّ هذه القوانين:
وقد قضت هذه القوانين على فرص اندماج قطاعات اليهود وشجَّعت على الأفكار الصهيونيَّة؛ فلم يعد من الممكن أن يرجع اليهود إلى الخلف كما كانوا يفعلون دائمًا، ولم يعد أمامهم سوى التقُّدمِ إلى الأمام حيث العصرُ الحديث والدولة القوميَّة الحديثة.