بدأ الإمام عبد القاهر الجرجانيّ كتابه بالحديث عن أهميّة الكلام، كونه هو الذي يُعطي العلومَ منازلها، ويبيّن مراتبها، ويكشفُ عن صُوَرها، إذ فضَّل الله تعالى الإنسان عن سائر الحيوان بالكلام، فلولا الكلام لم تكن تتعدَّى فوائدُ العلمِ العالم به.
ويرى الإمام الجرجانيّ أنَّ المتأمِّل يمكن أن يَحْكُمْ في تفاضُل الأقوال من حيث الحسن والقبح، ليس بمجرَّد اللفظ فقط؛ فالألفاظ لا تُفيد حتى تُؤلَّف ضربًا خاصًّا من التأليف، ويقصد بهذا الضرب من التأليف: النظم.
فلا بدَّ من نظم محدَّد ينتج عنه معنًى مميَّز، وقد برهن الإمام عبد القاهر على ذلك بأنَّك لو أخذت بيت شعرٍ أو فَصْل نثرٍ فغيَّرت في نظامه الذي عليه بنيَ، وغيَّرت ترتيبه الذي بخصوصيَّته أفاد ما أفاد، فستخرجه بذلك من كمال الفصاحة والبيان، إلى مجال الهَذَيان.
فعلى سبيل المثال: "قِفا نَبْكِ من ذِكْرَى حَبيبٍ ومنزل"، تغيِّره فتقول: (منزل قفا ذكرى من نبك حبيب)، ويتَّضح هنا تأثُّر المعنى وضياعه بسبب تغيير نظام بناء البيت الشعريّ.
يقول الشيخ عبد القاهر إنَّ الناقد المدقِّق بجواهر الكلام لو استحسن شعرًا أو نثْرًا، وجعل الثناءَ عليه من حيث اللّفظ فيقول: حُلْوٌ رشيق، وحَسَنٌ أَنيقٌ، وعذبٌ سائغٌ، فلا يقصد بذلك حال الحروف والكلمات فقط، أو ظاهر الوضعِ اللغويّ، بل إنَّه يشير إلى أمرٍ يقع في قلبه، وعقله معًا.
لكن لو استحسن الناقد اللفظ دون المعنى، فلا بدَّ أن تكون هناك أسباب لذلك الاستحسان، منها: