يرى الشيخ عبد القاهر أنَّ في التجنيس (الجناس) بنوعيه الناقص، والتامّ، لا بدَّ فيه من وجود:
وفي هذا القول تتَّضح ضرورة اتِّحاد اللفظ مع المعنى؛ فإنَّك لا تستحسن تجانُس اللفظتين إلَّا إذا كان وقع معنييهما من العقل موقعًا حميدًا، فما يُعطي التجنيس من الفضيلة، أمرٌ لم يتمَّ إلَّا بنُصْرةِ المعنى، إذ لو كان باللفظ وَحْدَهُ لما كان فيه مستحسنٌ.
ويرى الشيخ عبد القاهر أنَّ الألفاظ خَدَمُ المعاني والمُصرَّفةُ في حكمها، وكانت المعاني هي المالكة سياستهَا، المستحقَّةَ طاعتها، فمن نَصَرَ اللفظ على المعنى كان كمن أزال الشيء عن جِهَته، وأحاله عن طبيعته.
وخلاصة الكلام أنَّ الشيخ عبد القاهر لا يرى تجنيسًا مقبولًا، ولا سَجْعًا حَسَنًا، حتَّى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه، ومن هاهنا كان أَحْلَى تجنيس تسمَعُه وأعلاه، وأحقُّه بالحُسْن وأولاهُ، ما وقع من غير قصدٍ من المتكلِّم، ومنه قول الشافعيّ رحمه الله تعالى وقد سئل عن النَّبيذ فقال: "أجمع أهلُ الحرمين على تحريمه"، وممَّا هو شبيه به قول الشاعر:
وهوًى هَوَى بدُموعه فتَبَادَرَت ... نَسَقًا يَطأنَ تجلُّدًا مغلوبا
ثمَّ تحدَّث عبد القاهر عن قسمة التجنيس وتنويعه، إذ يرى أنَّ الأشعار التي أَثنى عليها النقَّاد والبلغاء من جهة الألفاظ، ووصفوها بالسلامة، وقالوا: كأنَّها الماءُ جَرَيانًا، والهواءُ لُطفًا، والرياضُ حُسْنًا، وكأنَّها النَّسِيم.
وقذ ذكر الكاتب مجموعة أمثلة منها قول الشاعر:
ولَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنًى كُلَّ حَاجةٍ ... ومَسَّح بالأركان مَنْ هو ماسحُ
وشُدَّت على دُهْم المهَارَى رِحَالُنا ... ولم يَنْظُر الغادي الَّذِي هو رائحُ
أخذْنا بأطراف الأحاديث بَيْنَنا ... وسَالَتْ بأعناق المطيِّ الأباطحُ
ويرجع استحسان مثل هذه الأشعار بعد إعمال الفكر والتأمُّل فيها إلى :
